كيريينا ( شمال قبرص ) وكالات – الناس نيوز ::
الصورة الرئيسة : عاملتان في كازينو اركين كولوني في كيرينيا في جمهورية شمال قبرص التركية املعنلة من جانب واحد،في 16 آذار/مارس 2022
اختفت الكروم وأشجار الليمون تحت الجرافات… في جنوب قبرص على مسافة كيلومترات قليلة من البحر، ينشغل مئات العمال في بناء “سيتي أوف دريمز”، وهو فندق وكازينو فخم يقدّم على أنه سيكون “الأكبر في أوروبا”.
ويشرف الأميركي غرانت جونسون موفدا الى ليماسول من مجموعة “ملكو” التي تتخذ من هونغ كونغ مقرا وتشيِّد أول مشروع لها في الاتحاد الأوروبي، على تنفيذ المجمّع المؤلف من 16 طابقا وثلاثة مسابح وتسعة مطاعم ومقاه ومتنزّه ومدرج.
ويؤكد جونسون أن الكازينو الممتد على مساحة 7500 متر مربّع سيكون “الأكبر في أوروبا”، وسيحتوي على “ألف ماكينة قمار ومئة طاولة ألعاب ورق” وغرفة مكرّسة للاعبين المهمين ، وفق فرانس برس .
لكن “سيتي أوف دريمز”، وهو أول مشروع بهذا الحجم في جنوب الجزيرة، قد يتسبب في اندلاع تناحر جديد بين شطري قبرص التي يحتل الجيش التركي الثلث الشمالي منها منذ العام 1974 ردا على انقلاب سعى الى ربط الجزيرة باليونان. ورغم فشل الانقلاب، بقي الأتراك، وما لبث أن أعلن الشطر الشمالي تأسيس “جمهورية شمال قبرص التركية” التي لا تعترف بها إلا أنقرة.
ويوجد 34 كازينو في “جمهورية شمال قبرص التركية” التي تعتمد عليها لواردات سياحية ضخمة.
ورغم ذلك، يأمل جنوب الجزيرة في جعل “سيتي أوف دريمز” (مدينة الأحلام) مركزا جذابا لتطوير القطاع واستقطاب المزيد من السياح، 300 ألف شخص إضافي على الأقل، وفق ما أعلنت الحكومة الداعمة للمشروع عام 2019.
لكن “ملكو” واجهت سلسلة من النكسات.
فقد تسببت جائحة كوفيد-19 في تأخير افتتاح “سيتي أوف دريمز” الذي أرجئ حتى نهاية العام 2022. كذلك، أدت الحرب في أوكرانيا إلى إعادة خلط الأوراق.
فهذا المشروع يراهن خصوصا على السياح الروس الذين تعد قبرص واحدة من وجهاتهم المفضلة. ومع العقوبات الغربية ضد موسكو على خلفية غزوها لأوكرانيا، حرم الروس من الرحلات الجوية المباشرة إلى الجزيرة المتوسطية الصغيرة.
ورغم تلك النكسات، يأمل القيمون على المشروع في زعزعة تحكّم “جمهورية شمال قبرص التركية” بالقطاع في المنطقة، بمجرد افتتاحه.
وتقول الباحثة المتخصصة في ألعاب الميسر في جامعة السوربون ماري رودون إن الجزيرة ستصبح مع هذا الكازينو، في “وضع استثنائي إلى حد ما” مع تدفق رؤوس أموال “محتملة من آسيا وتركيا وروسيا وأوروبا والشرق الأوسط”.
ومع ذلك، تؤكد أنه “كلما تنوّعت مصادر (الأموال)، يزداد تداولها، ويصبح من الممكن إجراء المزيد من الأعمال المشبوهة، مثل غسل الأموال”.
– “موضوع حساس” –
ويقول اختصاصي في عمليات غسل الأموال في جمهورية قبرص فضّل عدم كشف اسمه بينما يجلس في مقهى صاخب في نيقوسيا، إن الكازينوهات في قبرص “موضوع حساس”. فإّذا كثر التحدث عنها، “نجازف بالتورط في مشكلات”.
ويوضح “حتى العام 2015، كانت الكازينوهات محظورة في قبرص وكانت الكنيسة الأرثوذكسية تعارض إنشاءها”.
ولم يكن تشريع الكازينوهات أمرا سهلا. فبالإضافة إلى الكنيسة الأرثوذكسية النافذة جدا، عارضها جزء من السكان، وبينهم الرئيس السابق ديميتريس خريستوفياس (2008-2013) الذي ربطها بـ”الفساد”.
ويضيف الرجل الذي يعمل في قطاع المصارف “بعد الأزمة الاقتصادية في العام 2013، تواصلت مجموعات كبيرة مع الحكومة التي قررت أن الوقت مناسب جدا” لفتح كازينو.
لكنه يقول “نحن قلقون لأننا لسنا مستعدين لما يرافق الكازينوهات: الاقتصاد الموازي وغسل الأموال… لا يمكننا غض الطرف لأننا دولة عضو في الاتحاد الأوروبي، وبالتالي نحن نخاطر بأن ندفع غاليا ثمن ذلك. لا يمكننا أن نفعل مثل الشمال”.
ويعتمد قسم كامل من اقتصاد “جمهورية شمال قبرص التركية” على الكازينوهات. ودفع حظر الكازينوهات في تركيا عام 1997 بمجموعات كبيرة إلى إنشاء كازينوهات في شمال قبرص فازدهر هذا القطاع.
وأدخل قطاع الكازينوهات إلى الخزينة العامة التابعة لسلطات شمال قبرص، 600 مليون دولار في العام 2019، فيما كانت الميزانية الإجمالية في ذلك العام 4,2 مليارات دولار، وفق “ذي بيزنس يير”، الموقع الإعلامي المالي المتخصص ومقره لندن.
في “جمهورية شمال قبرص التركية”، تملك الكازينوهات الاختيار بين دفع ضرائب تتناسب مع أرباحها أو الحصول على ترخيص بسعر ثابت. وبفضل الخيار الثاني، يمكن لمعظم مشغّلي الكازينوهات عدم كشف عائداتهم، ما يترك “مساحة كبيرة مظلمة” في القطاع، وفق الخبير القبرصي اليوناني.
وتقول الناشطة القبرصية التركية إسراء أيجين التي اضطرت لمغادرة “جمهورية شمال قبرص التركية” خوفا على سلامتها، “من الواضح أن الدولة ليست هي من سيتحقق مما إذا كانت هناك عمليات غسل أموال ضخمة. دولتنا تعتمد كليا على الأعمال التجارية في الكازينوهات، سكاننا رهائن”.
ويشير سيرتاش سونان المتخصص في الاقتصاد والفساد في “جمهورية شمال قبرص التركية” إلى نموذج مجموعة “ميريت” التركية الضخمة.
ويوضح أن “ميريت تملك قناة تلفزيونية خاصة بها وصحيفة إذا اشتريتها تحصل على قهوة مجانية أو مشروب غازي. هدفها ليس كسب الأموال من وسيلتي الإعلام بل ممارسة تأثير”.
ويتابع “من الصعب جدا على السياسيين المحليين أن يقولوا لا لهذه المجموعات التركية العملاقة، أو أن يفرضوا عليها قواعد ويراقبوها”.
– “لاس فيغاس” –
والغالبية العظمى من مالكي الكازينوهات في شمال قبرص هم من الأتراك، لكن بعضهم ولد في قبرص مثل رئيس مجموعة “أركين” النافذة إربيل أركين.
ويقول اركين “أنا رائد الكازينوهات” في “جمهورية شمال قبرص التركية”. في الوقت نفسه، أسّس رجل الأعمال جامعة مخصصة للفنون قرب أحد الكازينوهات التي يملكها في كيرينيا.
ويروي أركين أنه في 1976 أثناء دراسته الفنون في لندن، قرّر أن يدخل قطاع الكازينوهات، ويقول “كانت هناك فرص ضخمة”.
ويستذكر أن شمال قبرص التي أعلنت استقلالها من جانب واحد العام 1983 مع بقائها تحت السيطرة السياسية والاقتصادية لأنقرة، “كانت تعيش على نهب المنازل” التي هجرها القبارصة اليونانيون.
ويضيف “منذ أنشِئَت (الكازينوهات) هناك، تغيّر الاقتصاد. كنا دولة منبوذة، أصبحنا وجهة” سياحية.
ويتابع “الكازينوهات تدرّ الكثير من الأموال وهي مصدر كبير للتوظيف”، مع 80,500 موظف في القطاع، معظمهم من الأتراك والقبارصة الأتراك.
ويُقدّر عدد سكان “جمهورية شمال قبرص التركية” التي لا تجري تعدادا سكانيا، ب276 ألفا، يضاف إليهم حوالى 30 ألف جندي تركي، بحسب الخبراء.
وجلبت الكازينوهات “ثروة لا تقدّر بثمن لشمال قبرص: السياح” الذين يأتون بشكل أساسي من تركيا والدول العربية وإسرائيل، وفق أركين الذي يقول “أصبحنا لاس فيغاس الشرق الأوسط!”.
– غسل أموال –
في كازينو فندق “كولوني” التابع لمجموعة “أركين” في كيرينيا، يمكن رؤية زبائن من أعمار مختلفة يلعبون بماكينات القمار أو إلى طاولات أوراق اللعب.
فجأة، يسمع صوت شابة تصيح من الفرح لفوزها ب47,600 ليرة تركية (3040 يورو)، وتقول “هل رأيتم؟ لقد فزت!”.
على الفور، يندفع شاب لتهنئتها. باباجان (31 عاما) مسؤول عن “سعادة” الزبائن. كان هذا الشاب أستاذا جامعيا سابقا للغة الفرنسية، وترك عمله ليصبح “مضيفا” في الكازينو ويحصل على “راتب أفضل”.
ومثله الشابة س. وهي “مضيفة” قبرصية-تركية تبلغ 34 عاما التقتها وكالة فرانس برس في نيقوسيا الشمالية. وتعمل هذه الأم الشابة في كازينو “ميريت” لأنها “تحتاج إلى المال”. وتقول شرط عدم كشف اسمها “دوري هو إسعاد الزبون. إذا خسر، أشجّعه حتى يلعب مجددا… ويخسر مجددا”.
وتروي كيف أن بعض زميلاتها في العمل يزوّدن الزبائن مخدرات، لكن أيضا “رفقة أنثوية”. لكنها ترفض القيام بذلك “لأن الله يرى”.
وأظهر تقرير عام 2021 صادر عن وزارة الخارجية الأميركية، أن الدعارة القسرية شائعة في شمال قبرص. وذكر التقرير أن “الملاهي الليلية البالغ عددها 27 في +جمهورية شمال قبرص التركية+ هي بيوت دعارة يتمّ فيها الاتجار بالجنس”، مشيرا إلى أن مديريها يكونون مرتبطين أحيانا بأعضاء الحكومة المحلية.
– بيئة “إجرامية” –
في كيرينيا، يقول إربيل أركين لوكالة فرانس برس عن غسل الأموال، “أنا لا أقول إن غسل الأموال غير موجود في شمال قبرص. لكن لا تنظروا إلى الكازينوهات (…) بل انظروا إلى المصارف”.
وفي تقرير آخر نشر أيضا في العام 2021، تشير وزارة الخارجية الأميركية إلى أن “قطاع المصارف العاملة بنظام الأوفشور يشكل خطرا من ناحية غسل الأموال” في “جمهورية شمال قبرص التركية”، مضيفا أنه “تتبّع نشاطات غير قانونية متزايدة تنطلق من اسطنبول”.
ويظهر التقرير نفسه أن “الكازينوهات وقطاع المقامرة يخضعان لتنظيم سيّئ وهما عرضة لغسل الأموال”.
وهو أمر ينفيه إربيل أركين الذي يقرّ في الوقت نفسه بأنه لا يتحقق من مصدر الأموال التي يستخدمها زبائنه. ويقول “إنه واجب الشرطة. والأمر مماثل في الجنوب”.
وليس مخطئا في ذلك. ويقول المواطن القبرصي اليوناني العامل في مجال مكافحة غسل الأموال إن جنوب الجزيرة يغضّ الطرف كذلك عن مصدر الأموال التي تستخدم في كازينوهاته. لكن القانون في الجنوب ينظّم المؤسسات أكثر.
ويقول وزير المال القبرصي في تصريح لوكالة فرانس برس إن “مكافحة غسل الأموال (…) تعتبر تحديا وعملية متواصلة. تعمل السلطات على اتخاذ تدابير قوية وتقليل المخاطر”. ويضيف أن “تقييم قبرص (حول هذا الموضوع) الذي وضعته منظمات دولية يظهر إطارا تشريعيا متينا”.
ويقول مدير المعهد الأورو-متوسطي للجغرافيا السياسية في نيقوسيا يورغوس ستافري إن “+جمهورية شمال قبرص التركية+ تشكّل بيئة مثالية لأي نشاط إجرامي”.
وبما أنها مستبعدة من النظام الاقتصادي والسياسي الدولي، خصوصا من هيئات المراقبة لمكافحة غسل الأموال، فإنها “ليست مسؤولة أمام أحد (…) إنها الفناء الخلفي لعمل تركيا القذر. وهذا أمر مناسب جدا لكل منطقة” الشرق الأوسط.