ميشيل سيروب – الناس نيوز :
يعتمد المحقق إيريك فان مارتن في بحثه عن اختفاء الروائي يان على تحليل روايتين ومخطوطة بعنوان: ” قطار أعمى لا يُخلف مواعيده”. ويعتمد أيضاً على تفكيك رموز ثلاث لوحات ليان، لكننا كما المحقق نتفاجأ بأن نتيجة التحري كانت: بأننا أمام حالة لا تشبه سواها ولا تخطر على بال الباحثين والمهتمين، إننا أمام حالة اختفاء ينتصر فيها البلجيكي يان: حياً أو ميتاً أو غائباً. ليكتشف المحقق بأن الحياة حفلة أوهام، يستقيل إيريك ليكتب رواية عن أحداث وشخصيات أصبحتْ ملعباً لذاكرتهِ المُثقلة بالأسئلة.
هول الخديعة،
تعتمد الرواية السرد في زمان ومكان مُحددين، وهي ترصد قرناً من الأحداث الجسيمة تنفتح على الحرب العالمية الصُغرى في كوريا، والصراع الكوني بين القطبين العالميين آنذاك، لتنتهي بخيبة بطل الرواية يان دو سخيبّر من حزب العمال الكردستاني بعد لقائه مع أحد المُنشقين الهاربين من مُعسكرات الحزب(أوميد). يتخلى يان عن فكرة تأليف رواية داعمة للحزب، حينها عاد من تركيا واختفى خائباً مُتكدراً مهموماً من قصص وفظائع الحزب.
يتجنب الروائي هوشنك أوسي الوقوع في مصيدة السياسة، وكي تبدو الرواية بريئة من عثرات التوثيق وحبائله، يُنوه بأن بعض شخصيات الرواية حقيقية، وبعضها الآخر مُتخيل. هل استطاع الروائي فك التشابك بين الهم السياسي والإبداع الأدبي؟ السؤال برسم القارئ! وظّف أوسي السياسة ببراعة لنسج الحكايات المُتسلسلة بلغة عالية جعلتنا مشدوهين لتلك الكوارث ولتلك العوالم الغريبة التي حدثت بالتناوب بين قارتين مُتجاورتين ومُتخاصمتين.
في الحرب الكورية نتعرف على شاب أمريكي فقير مُعادٍ لنهج قيادته وقد زُجّ به في أتون المعركة كي ينعم أولاد الأغنياء بالحرية والسلامة والمراتب والمناصب…. إنه الموقف اليساري ذاته من الحروب، لكن هل الأنظمة التقدمية (التقدمية كلمة بلا مدلول وليس لها قيمة معرفية) في ذلك الحين، كانت بريئة من افتعال الحروب والأزمات؟
بندقية للإيجار:
الشخصية المركزية الثانية في الرواية مناضل ثوري رومنسي. يسرد أوميد خيبات الكرد في سوريا وتركيا من حزب طليعي قدم نفسه كمشروع تحرري وثوري ضد نهج الهيمنة. تحت تأثير النبيذ يبوح أوميد بأسرار وخفايا تجربته مع الحزب، هل علينا أن نأخذ تلك الحكايا على محمل الجد؟ أم أن البوح في حالات التجلي تكون أصدق وأكثر مرارةٍ؟ “الكرد شعب الكوارث الداخلية التي لا تنتهي” يكتشف أوميد نفق الشعور بالخيبة وتحطّم الأحلام وتلاشي ما يمكن وصفه بالرومنسية الثورية… ويبوح لصديقه البلجيكي بلحظة مكاشفة مع الذات عن الخطر الذي عايشه الكُرد من خراب ودمار نفسي واجتماعي وسياسي واقتصادي وبشري. لِجَلدِ الذات يمتدح أوميد كنعان إفرين قائد الانقلاب العسكري الدموي في تركيا عام 1980، الذي كان له الفضل بوقف الاقتتال الأخوي بين حزبين كرديين! وبمرارة وألم يعترف أوميد عن حزبهِ- ” لم أجد الشخص المناسب في المكان المناسب”
-أبداً؟!! حتى الزعيم؟!
-حتى الزعيم”.
نتلمس في بعض فصول الرواية شهوة الانتقام من تاريخ حزب ساهم على تحرير الكرد،.كل الحركات الثورية أصابت وأخطأتْ – من كان منكم بلا خطيئة فليرجمها بحجر- ولنا بتجربة الثورة الفرنسية والروسية والصينية والفلسطينية نماذج ساطعة لماضٍ تراكمتْ فيه الأخطاء وحتى الجرائم تحت يافطة العدالة الاجتماعية والحرية.
من فصول معاناة أوميد من سياسات الحزب، لا يخفي أوميد امتعاضه من تحالف الحزب مع حافظ الأسد! مُعذبون في الأرض: يقدم الروائي أوسي:المومس كضحية من ضحايا العلاقات العائلية والعشائرية وضحية للحزب المُخلَص. تقدمُ الثورةُ المرأةَ بهيئة المناضلة والمقاتلة في تلك الجبال التي تعمدتْ بالدم. سبق للروائي العراقي فؤاد التكرلي أن قدم نموذج المومس كضحية للمجتمع الذكوري، لكن في نموج أوسي نتلمس المتاجرة والمزاودة بتاريخ تلك المرأة زوجة الشهيدين! ينحصر همها باللجوء إلى أوروبا بعد أن تقع فريسة بيد المهربين والقوادين.
سيل من الأحداث والشخصيات والحوارات نتقاسمها مع ركاب مهمومين ومشغولين بالهم العام. يتحول القطار إلى مسرح يستعرض فيه الروائي رؤى اليمين الألماني الشعبوي ضد اللاجئين وشعوب الشرق الأوسط، عن تنامي روح التطرف الإسلامي في الغرب كردة فعل على سياسات مُعادية مُعلنة من تلك الأحزاب اليمينية. كلا الطرفين أحدهما يُغذي الآخر كنوع من تقاسم الأدوار لمصالح سياسية آنية ونفعية. عن الخيانات الزوجية بين عاشقين يبحثان عن اللذة خارج إطار الحياة الزوجية، وعن الأرمني التأه في بلادٍ لم يُحالفه الحظ للحصول على اللجوء بعد أن غادر يريڤان وقد أصبحتْ من الماضي.
*هوشنك أوسي: شاعر وصحفي وروائي كردي سوري من مواليد عام1976 محافظة الحسكة – سوريا. مُتخصص بالشؤون الكردية والتركية. تُرجمتْ مقالاته إلى الإنكليزية والتركية. رواية” حفلة أوهام مفتوحة” قيد الدراسة صادرة عن دار سؤال للنشر في بيروت. وللروائي أيضاً: “وطأة اليقين” التي نال عنها جائزة كتارا للرواية العربية عام 2017. وله أيضاً ” الأفغاني سماوات قلقة”, عضو نادي القلم الدولي، وعضو رابطة الصحفيين السوريين.