أحمد الخليل – الناس نيوز ::
لا أدري إن كان حافظ الأسد قد قرأ رواية الزيني بركات للروائي المصري المعروف جمال الغيطاني (1945-2015)، أو أن أحد مستشاريه أو شخصاً ما من خاصته لخصها له أو نصحه بقرائتها، خاصة وأنها صدرت بُعيد انقلابه، فما جرى في الزمن الأسدي لهو (فوتوكوبي) عن عهد البصاصين زمن المماليك في مصر، إذ أن الشبكة الأمنية التي تفنن في تشكيلها الأسد (أجهزة أمنية وشبكة مخبرين وبث شائعات وتمزيق المجتمع…) لتبز تلك التي شكلها بركات بن موسى الملقب بالزيني والي الحسبة، الشخصية المحورية في رواية جمال الغيطاني، الزيني كان والياً للقاهرة ولكي يحافظ على الحكم كان لابد له أن يعرف ما يدور في المجتمع وبين موظفيه وبين أفراد بطانته، فأوكل المهمة لكبير البصاصين زكريا بن راضي الذي كان يبث الإشاعات والفتن في المجتمع المصري لخدمة مصالح الوالي والسلطان، ولتدعيم أركان السلطة وفرض هيبتها، نسج الزيني علاقات وطيدة بأجهزتها المختلفة، ومستيعنا بكل إمكانياتها ومن ضمنها المؤسسة الدينية (شبكات الصوفية والمساجد والمشايخ لتسويق صورة مثالية ومشرقة عنه، كما أنه لا يتواني عن إلقاء الخطب لتسويق نفسه ودحض الاتهامات والشائعات الموجهة له، أولتسويغ خططه وسياساته، وحين يتطلب الأمر الحزم والشدة والقسوة يكشر عن أنيابه ويقضي على أي بوادر احتجاج من خلال أجهزته فيزج بمن سولت نفسه امتلاك أي رأي غير رأي الحاكم في سجن رهيب، يسمى بالمقشرة (شبيه بسجن تدمر)، وكان يمتلك منظومة استخبارات أخطبوطية ومرعبة يديرها الشهاب زكريا بن الراضي كبير البصاصين أو المخبرين، وهي إحدى الشخصيات الرئيسة في الرواية، زكريا شخصية تتسم بالتوحش والبطش وانعدام أي حس، لذلك يمارس التعذيب بمتعة حسية لا مثيل لها مستخدماً طرقاً وأساليب غير معهودة في استجواب المعتقلين وتعذيبهم، ورصد الأخبار في كل أزقة وحواري المدينة.
أنشأ زكريا شبكة مهولة مهمتها رصد كل شيء في المجتمع، أحاديث الناس، وأسرارهم وفضائحهم، وتحريض البعض ضد البعض الآخر لجعل كل شخص بصاص بشكل غير مباشر للسلطة!!
شبكة البصاصين تتشكل من قسمين: المخبرون/البصاصون المتفرغون: وهم الذين لا عمل لهم سوى مراقبة الناس والتنصت عليهم، فالبصاص المتفرغ يلف ويدور طوال اليوم، يتمشي في الأسواق ويجلس في المقاهي، يتسقط الأخبار ويفرز المعارض من المؤيد، فهو يتقن الحوار والأحاديث ويتسلل بخفة في أي تجمع، وكما جاء في الرواية: (فهو عامل فحم عندما يتحدث إلى الفحامين، وعطاراً عند التحدث إلى العطارين، ساخطاً عند استماعه إلى الساخطين، مستغفراً تائباً عندما يسجد مع التائبين….)، وهذا ما يحقق له مبتغاه بمعرفة من الساخط والمتبرم من الوضع السياسي والاقتصادي، ومن منهم من جماعة من رضي عاش.
والنوع الثاني: المخبر/البصاص غير المتفرغ: أي الموظف أو صاحب مهنة ما ويندرج تحت هذا النوع موظفون كبار أو صغار أو أغنياء أو فقراء، ومهمة هذا النوع التجسس على زملائه وأصدقائه ومعارفه، وكتابة التقارير عن حركاتهم وأحاديثهم، كما يوكل لهؤلاء بث الإشاعات والأكاذيب لنشرها بين الناس، وخلط الصادق والكاذب من الأخبار لتضييع الحقائق.
الأسد تفوق على الزيني بركات فلم يكتف بجهاز واحد بل طور الأجهزة الأمنية القديمة، وأسس أجهزة جديدة، وجعل على رأس كل منها بصاصاً كبيراً شبيهاً بالشهاب زكريا في رواية جمال الغيطاني، وهي (الأجهزة) لا تراقب وتسجل وتلتقط أنفاس أفراد الشعب فقط، بل يمتد عملها لتراقب بعضها البعض وتتجسس كل منها على تفاصيل عمل الأجهزة الأخرى، كما أن زيني بركات سوريا مَيع الاختصاصات بينها، إذ يستطيع أي منها التدخل بتفاصيل حياة أي فرد في البلد، لا بل جعلها في حالة تنافس شديد على الولاء لخالقها (الأسد)، إن كان في شدة التعذيب أو عدد المعتقلين وعدد السجون ومراكز الاعتقال، ووصلت ابتكاراتها لدرجة محاسبة (الرعايا) على أحلامها، كما حدث لضابط في بداية الثمانينات من القرن الماضي حيث رأى حلماً أنه أصبح قائداً ورئيساً لسوريا، وحكى حلمه لزملائه فكان مصيره سجن تدمر في نفس اليوم الذي روى تفاصيل حلمه!
بصاصو سوريا الآن أو غالبيتهم يعانون الفقر والجوع وشح وسائل الحياة من ماء وكهرباء وخدمات ووقود. إنهم مصابون بخيبة أمل من المعلم (فما هكذا تورد الإبل)! فبعد كل هذه التضحيات وبذل الغالي والنفيس في سبيل ديمومة القائد والملهم وكشف العملاء الذين يتربصون له ولعائلته ويريدون به الشر تكون نهايتهم هكذا التشرد والجوع؟! ويصبحون رعايا عاديين كالآخرين بلا أية ميزات ولا أية مكاسب؟!
البصاص السوري يقع الآن بين نارين، فهو من جهة يعاني الفاقة كالآخرين، ومن جهة ثانية يعاني من شماتة الناس به! فبعد كل هذا التشاوف والغطرسة و(العنطزة) والهيبة يصبح لا حول ولاقوة وبلا أنياب.
حتى أن البصاص الآن لم يعد له عمل، فأغلب (العملاء) ماتوا أو هاجروا أو زجت بهم السلطة في السجون، لذلك أصبح البصاصون عاطلون عن العمل ولم يعد لهم أهمية تذكر. لهذا يفكر بعضهم بالهجرة بعد تمهيد في وسائل التواصل الاجتماعي بهدف تبييض السمعة وإحراق ملفات الماضي وتقديم أوراق اعتماد إلى جهات أخرى مرفقة بوثائق عن خبراتهم وكفاءاتهم، وآخرون ممن حالفهم الحظ وجمعوا مبالغ مالية كبيرة أصبحوا رجال أعمال يستثمرون بما بقي من هذا الخراب.