د. خالد عبد الكريم – الناس نيوز :
رواية (بخور عدني) للروائي اليمني – الفرنسي علي المقري تحضرني هذه الأيام وقد أصبح موضوع السلام والتطبيع جزءا من همنا الجمعي ومحور نقاشنا اليومي.الرواية تشدنا إلى عملية سلام فريدة، تجربة تخوض في نسيج مجتمع مدينة عدن لم يحدد كاتب الرواية متى بدأت عملية التعايش والوئام ولكنه حدد فترة انتهائها بالعام 1948م إبان رحيل يهود اليمن إلى إسرائيل ضمن عملية واسعة أطلق عليها (بساط الريح) .
استمرت الطوائف والأعراق الأخرى على الرغم من تنوعها في الحفاظ على نسيج متآلف متقبل للآخر. كان محور الرواية الرئيسي من وجهة نظري يعتمد على ثلاث ركائز جميعها من يهود عدن، شمعون وأسرته ، شمعة الفنانة، وعبده حجازي رجل الأعمال . لكل من هؤلاء الثلاثة حكاية يمكن أن تتطور الى رواية بحد ذاتها أو عمل درامي .شمعون صاحب دكان “اليهودي” في كريتر كان جده القديم جاء من إسبانيا هربا من الاضطهاد.
شمعون تزوج يهودية من مدينة ذمار اليمنية، كانت بنت الذماري كما يسميها شمعون في طريقها للسفر إلى أورشليم، عبر عدن. رآها في بيت القداس أعجب بها وتزوجها، لوزة وهذا كان اسمها أنجبت له ولدين الأول بلغ العشرين يشتغل في كازينو البندر الذي يمتلكه والده شمعون والثاني موشيه في التاسعة يدرس في مدرسة جورج الخامس اليهودية للبنين، وابنتين الكبرى اسمها لية تدرس في مدرسة أورشليم اليهودية للبنات هي في السابعة عشرة أما الثانية عفراء فتصغرها بعام ونصف وترفض دخول المدرسة.
عند مغادرته عدن نهائيا عام 1948م يترك شمعون كازينو البندر لميشيل الفرنسي وصديقته العدنية ماما.
شمعة هي أخت لوزة زوجة شمعون من ناحية الأم، خرج والد شمعة وزوجته وابنهما حاييم من مدينة ذمار في عشرينيات القرن الماضي متجهين صوب عدن حيث الجمعية اليهودية لمساعدتهم على الرحيل إلى أورشليم، هاجر أخوها و توفي في عدن والدها، بقيت شمعة الطفلة ذات السنوات الثماني في عدن ترعرعت في منزل أختها لوزة زوجة شمعون، وخرجت من بيت شمعون وهي مغنية مشهورة.
عند رحيلها النهائي من عدن إلى إسرائيل عام 1948م تركت ثلاثة منازل لها وزعت اثنين منهم على المقربين وتركت الثالث مأوى للفنانيين.
اشتهرت في إسرائيل وظلت أسطواناتها تصل عدن عبر شركات عبده حجازي.
عبده حجازي هو من أسرة يهودية واسمه الحقيقي سعيد بن إسرائيل، توفيت والدته وهو في السابعة، رعته خالته التي تزوجت من مسلم، فأسمت ابن أختها عبد الله، كان عمره عشر سنوات عندما كان قاعدا في ميناء التواهي ( منطقة في عدن) ليدل القادمين على الفنادق ، صادف قدوم فوج من الحجاج الهنود البهرة إلى عدن في طريقهم إلى مكة، رافقهم لخدمتهم في الطريق، وفي مكة سكن مع البهرة عند صاحب فندق يدعى حجازي، أعجب بسلوك عبده وخدماته فطلب منه المكوث والعمل معه في الفندق، اختصر صاحب الفندق اسم عبد الله إلى عبده وأضاف المنادون إلى اسمه حجازي، عامله كابنه ولم يكن له أطفال وعندما مات وكان عبده حجازي في التاسعة عشرة كان الوارث الوحيد له بوصية منه.
عاد عبده حجازي إلى عدن وعمل في مجال الإسطوانات والنشاطات التجارية ونافس في توريد السيارات وشراء الكازينوهات وتأسيسه شركة للأغاني والأفلام.
الرواية كتبت بأسلوب الرسائل الوصفية بين ميشيل الفرنسي الذي التحق في بلده بالمقاومة ضد الاحتلال النازي باسم فرانسوا كون العرج في إحدى رجليه لا يؤهله أن يكون محاربا، هرب من المعارك وحملته إحدى السفن إلى عدن، ليصلها ضائعا مشتتا لم يقرر بعد أي اسم يختار لنفسه ، ليكتب رسائله إلى شانتال صديقته في فرنسا، يصف لها عدن الأربعينيات طقسها حواريها ناسها متعددي الأصول الصومالي والعربي والهندي واليهودي، تجمعهم عدن ويطلق على ساكنها ( العدني) وهي الصفة التي أراد ميشيل أن يكتسبها وتحقق له ذلك .
رواية بخور عدني ترسم في 232 صفحة لوحة عن عدن للفترة 1943-1973م جمع فيها بين التوثيقي بالروائي في تناغم مبهر. العادات، التقاليد، البضائع، الطفرة التجارية، انتشار وكالات السيارات وظهور دور السينما والتلفزيون .
حيز كبير أفرد لحياة الليل والكازينوهات وكذلك المقاهي الشعبية والأسواق.
التناقضات تذوب، حتى الطوائف الهندية المتناحرة من الهندوس، والمسلمين الهنود ، جمعتهم عدن في تناغم وسلام . يكتب علي المقري في وصف موقع دكان العم شمعون ، والشهير بدكان اليهودي “حملت الشوارع، المعروفة بمجملها بالحي اليهودي أو القسم( أ ) أرقاما رسمية من 81 إلى 84 وهو المجاور لحي الزعفران، لكن التسميات الشعبية هي التي كانت متداولة، ومع أن اسم الحي ارتبط باليهود إلا أنني كنت أرى الكثير من بيوت المسلمين والبانيان والزرادشتيين قد جاوزت بيوت اليهود ، “وكان يتجاور مسجد العسقلاني والكنيس اليهودي الأكبر نجمة أفراهام، ومعبد ألبانيان وكنيسة سانت جوزيف ومدرسة للبهرة منقوش على بابها : ياحي ياقيوم “.
الجانب السياسي كان طاغيا في الرواية ونشوء الحركات الشعبوية، و التنظيمات القومية واليسارية وصولا إلى الصراع المسلح والاغتيالات بين التيارات السياسية المتناحرة فترة الستينيات وصولا إلى الاستقلال عن بريطانيا 1967م والإجراءات الثورية التي عصفت بعدن وجنوب اليمن عقب الاستقلال.
رواية ( بخور عدني) جديرة بالقراءة لمن يريد أن يفهم عمق التعايش والقبول بالآخر الذي ساد مدينة كانت حاضرة الجزيرة العربية ، والتجاذبات التي شهدتها عدن بين
الكسموبوليتية و نزعة العروبة.
بخور عدني صدرت عن دار الساقي في طبعتها الأولى عام 2014 م للمؤلف علي المقري كاتب وشاعر يمني- فرنسي، له ثمانية كتب أخرى، حاز على جائزة البوكر العربي عام 2009 .