مازن نقاشة – الناس نيوز ::
في ظل التحولات السياسية العميقة التي تشهدها المنطقة العربية، يبرز سؤال السلطة كأحد أكثر الأسئلة إلحاحًا في واقعنا اليوم. فالتمسك بالسلطة، يمثل ظاهرة قديمة تعود جذورها إلى التاريخ السياسي العربي والإنساني.
من سوريا التي عانت من الاستبداد الأسدي إلى العديد من بلدان العالم العربي والعالم ، يتضح أن هذا السلوك ليس وليد اللحظة، بل هو نتيجة أبعاد نفسية وثقافية راسخة.
الأبعاد النفسية والثقافية للتمسك بالسلطة:
التمسك بالسلطة لا يرتبط بالمصالح الشخصية أو أخلاق القائد فقط، بل يعكس أبعادًا نفسية وثقافية أعمق. فالحاكم يرى في السلطة مصدرًا للأمان النفسي والاجتماعي، ويتخوف من المجهول والمحاسبة بعد التنازل عنها.
هذا ما أكده ابن خلدون حين اعتبر العصبية والقوة أساس بقاء الحاكم، بينما رأى مكيافيللي أن الخوف أداة فعالة للحفاظ على الحكم. أما ماكس فيبر فقد أشار إلى أن السلطة تولّد شعورًا بالتفوق يجعل الحاكم مستعدًا لفعل أي شيء لضمان بقائه.
من الناحية النفسية، يصبح الحكم جزءًا من هوية الحاكم، ويحيط نفسه بدائرة من الولاء والانتهازية (المطبلين والمصفقين)، ما يعزز قناعته بأنه لا بديل له. ثقافيًا، تسود المجتمعات العربية ثقافة أبوية إتباعية ترى في الحاكم “الأب الحامي”، مما يرسخ طاعة القائد ويبرر أفعاله مهما كانت ظالمة.
غياب ثقافة ديمقراطية مؤسسية تقوم على احترام النقد، وتقبل الرأي والرأي الآخر، وضمان حرية التعبير، يؤدي إلى التعامل مع السلطة كملكية شخصية تُورث، ما يعزز الاستبداد ويجعل التخلي عن السلطة أمرًا مستبعدًا إلا بضغط شعبي أو ظروف قاهرة.
أمثلة من التاريخ:
شهدت الحضارات الإسلامية الكبرى، مثل الدولة الأموية والعباسية والفاطمية والمملوكية والعثمانية، نمطًا سياسيًا قائمًا على الحكم الفردي واحتكار السلطة واستبعاد التداول السلمي لها.
نادرًا ما كانت السلطة تُترك طواعية؛ بل غالبًا ما كانت تُنتزع بالقوة.
وصل الأمر في بعض الأحيان إلى أن يقتل الأخ أخاه للحفاظ على الملك. عبارات مثل “لو نازعتني نفسي على هذا الأمر لقاتلتها عليه”، المنسوبة إلى عبد الملك بن مروان، تُظهر مدى تمسك الحكام بالسلطة بأي ثمن.
في المقابل، طوّر الرومان، قبل المسلمين، شكلًا بدائيًا من الديمقراطية عبر تأسيس مجلس شيوخ يمثل نوعًا من المشاركة في صنع القرار. ورغم اطلاع بعض المفكرين المسلمين على هذه التجربة، إلا أنهم لم يطوّروا فكرة الشورى لتتحوّل إلى نظام سياسي حقيقي. لم يتم تبنّي أي آليات لتقييد السلطة المطلقة أو تحقيق تداولها، وظلت السلطة الفردية المطلقة هي النموذج السائد، رغم وجود مبادئ الشورى والعدل والقرار الجماعي في الإسلام.
في العصر الحديث، لم تختلف الصورة كثيرًا. فالعديد من الأنظمة العربية، رغم تبنيها شعارات الديمقراطية، ظلت حبيسة الاستبداد. مثال على ذلك، قيس سعيّد، المنتخب ديمقراطيًا في تونس، وعلى الرغم من كونه أستاذًا في القانون الدستوري قام بحل البرلمان والاستفراد بالسلطة، ما يعكس استمرار ظاهرة التمسك بالسلطة حتى في الأنظمة التي بدأت ديمقراطية.
وعلى النقيض من ذلك، قدّم كل من نيلسون مانديلا في جنوب إفريقيا وسوار الذهب في السودان نموذجين استثنائيين للتنازل الطوعي عن السلطة، ليصبحا مثالين بارزين يُحتذى بهما في التاريخ الحديث.
الواقع السوري: بين الاستبداد والتحدي
في سوريا، شكّل التمسك بالسلطة مثالًا صارخًا للاستبداد. واجه النظام السوري الثورة الشعبية عام 2011 بالقمع الوحشي، ما أدى إلى دمار واسع النطاق وخسائر بشرية ونزوح الملايين. رغم كل ذلك، ظل النظام متمسكًا بالسلطة، معتمدًا على تحالفاته الدولية والإقليمية.
مؤخرًا، ومع تراجع الدور الروسي بسبب الانشغال بالحرب الأوكرانية وضعف الدور الإيراني وحزب الله بسبب الحرب على غزة، سمح ذلك لهيئة تحرير الشام والقوى المتحالفة معها، بدعم تركي قطري وموافقة اسرائيلية وغطاء أميركي ، أن تملأ فراغ القوة. نفذت الهيئة عملية “رد العدوان” وحققت تقدمًا عسكريًا مفاجئًا، ما تسبب في انهيار واقعي ومعنوي كبير لدى جيش الأسد المخلوع الهارب إلى صقيع روسيا وحضن بوتين.
ورغم فرحة السوريين بالتخلص من استبداد النظام، يبرز تخوف جديد: هل ستستفرد القوى المنتصرة بالقرار السياسي؟ تعيين حكومة انتقالية من لون واحد ودون التشاور مع القوى الوطنية أثار جدلًا واسعًا حول مستقبل سوريا.
كيف نبني المستقبل؟
إن التحول الديمقراطي في سوريا والمنطقة العربية يتطلب رؤية شاملة تعتمد على:
- دعم التعليم: نشر ثقافة المواطنة، وتعزيز التفكير النقدي، واحترام التنوع والتعايش.
- إعادة بناء المؤسسات: تأسيس قضاء مستقل، وإعلام حر، وبرلمان يُمثّل جميع أطياف المجتمع.
- إشراك الشباب والنساء: توفير بيئة داعمة لمشاركتهم في الحياة السياسية وصنع القرار.
- التعاون الدولي: لضمان استقرار سوريا مع الحفاظ على استقلال القرار الوطني.
مسؤولية المجتمع في دعم الديمقراطية:
إن نجاح التحول الديمقراطي لا يتوقف فقط على تغيير الحكام أو الأنظمة، بل يعتمد على وعي المجتمع بدوره في دعم الديمقراطية وترسيخها. يتحقق ذلك من خلال بناء مجتمع مدني قوي ومستقل قادر على مراقبة أداء السلطة، وتعزيز الشفافية، وحماية الحريات العامة. المجتمع المدني هو حجر الأساس في أي نظام ديمقراطي، إذ يلعب دورًا رئيسيًا في تحقيق العدالة ومنع الاستبداد.
تعزيز ثقافة المحاسبة يشكل عاملًا محوريًا لتجنب إعادة إنتاج الأنظمة الاستبدادية. فالديمقراطية ليست مجرد حقوق تُمنح، بل هي واجبات يتحملها الأفراد لضمان استمراريتها. هذا التوازن بين الحقوق والواجبات يخلق مواطنًا واعيًا ومسؤولًا قادرًا على حماية مكتسباته الديمقراطية.
التفاؤل رغم التحديات.
إن التغيير الحقيقي نادرًا ما يكون نتيجة حدث مفاجئ أو تنازل طوعي من الحكام، بل هو عملية طويلة تتطلب التكاتف والعمل الجماعي المستمر.
تجارب دول مثل جنوب إفريقيا وألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية تُظهر أن الشعوب الواعية، رغم التحديات، قادرة على بناء مستقبل أفضل.
بناء سوريا جديدة يتطلب جهدًا جماعيًا وصبرًا، لأن المستقبل يُصنع من خلال خطوات صغيرة تبدأ اليوم.
كاتب سوري مقيم في المانيا