كيف نجحت السلطة بتدمير المجتمع؟ هو ذَا السؤال الأهم إذا ما أردنا أن نعيد بناء ما دمر.
لقد جاءت إلى السلطة فئات حاكمة ذات عقلية عسكرتارية -أمنية فاسدة ،خالية من معاني الانتماء الوطني، ومتمركزة حول هدف واحد وحيد ألا وهو البقاء في السلطة، والاحتفاظ بالقوة الكفيلة بإبقاء السلطة.وتأسيساً على هذا الهدف الوضيع وتحقيقه ،صار كل شيء مباحاً.
فالسلطة ذات الخراب الأخلاقي القائم على القتل والسجن واستخدام الإهانات الجسدية واللفظية والفساد في وضح النهار كانت قد صدرت كل انحطاطها إلى المجتمع ،ولَم ينج من هذا الانحطاط إلا النذر اليسير من البشر.
فالسلطة ذات الخراب الأخلاقي لا تستطيع العيش إلا إذا عممت الخراب الأخلاقي في كل أنحاء الحياة ،المؤسساتية والاجتماعية.حتى يصير خرابها الأخلاقي أمراً طبيعياً ،لا يدعو إلى الدهشة،وألفة أنماط السلوك المنحط أخلاقياً. تحول الانحطاط هذا إلى عالم مألوف وعادات عيش، وشيئاً فشيئاً تتسرب أخلاق الانحطاط إلى الأكثرية لتغدو نمط عيش، والأخطر من ذلك تحطيم أخلاق النخبة.
فرجال السياسة العاملون في الأحزاب وجهاز الدولة من الرئيس ورئيس الوزراء ومعاونيهم والمدراء ،والنواب والقضاة وأساتذة الجامعات والمدرسون والمعلمون والضباط ومعلمو المهن الحرفية المبدعون وغير المبدعين ،التجار والصناعيون والمخاتير والوجهاء ،وقادة المجتمع المدني ،والكتاب والشعراء والصحفيون، جميع هؤلاء ينتمون إلى النخبة الفاعلة أساساً ،فهم فاعلون بوصفهم يخلقون المعايير.أجل النخبة هي الخالقة للمعايير التي تتحول إلى قيم عامة.وهذه النخبة تحوز في العادة على الاعتراف والاحترام من قبل الهيئة الاجتماعية.
إن الجريمة الشنيعة التي ارتكبتها النظم الحاكمة،وخاصة الجماعة الحاكمة في سوريا ، هي جريمة تدمير ماهية النخبة بوصفها خالقة للمعايير القيمية و الجمالية والمعرفية ،وبالتالي فقدانها الوظيفة التي حازت على أساسها حق الاعتراف والاحترام،مع بقاء نخب استثنائية نجت من خناجر المجرمين.
فرجال السياسة من الرئيس وما شابه ذلك إلى أدنى موظف هم مجموعة من اللصوص ورموز الفساد،وحولهم جهاز أمني وعسكري يتصرف خارج سلطة القانون وهكذا..خذ الآن صور الضابط والقاضي والشيخ والوجيه والقائد النقابي،والمختار وبعض الممثلين الشعراء والمدير الذين صاروا جزءاً من روح النظام الحاكم إنهم الآن صور قبيحة جداً، بوصفها انعكاساً لصورة الجماعة الحاكمة الأكثر قبحاً .
لقد تم تحطيم عقل المجتمع بتحطيم النخبة وأخلاقها،ومع انتشار عنف السلطة المادي واللغوي دون حدود،صار العنف وعياً يحدد علاقة الذات بالآخر.
وتحول المخبر إلى جزءٍ من حياة الناس اليومية ،الذي راح يفسد العلاقات المشرية حتى داخل القرية الوادعة ،ناهيك عن إفساد عالم المؤسسات.
وأخلاق السلطة المنحطة ،التي أصبحت أخلاق أكثر النخب وكثير من العوام ترافقت مع ظاهرة خطيرة هي الأخرى ،ألا وهي انتشار الأخلاق الأيديولوجية.
لما كانت الأيديولوجيا ،بكل أنواعها ذات ماهية دينية تعصبية ،فإن الأخلاق المنعكسة عنها هي أخلاق نفي الآخر المختلف.
الأيديولوجي يؤمن بسردية لا يأتيها الباطل من خلفها ولا من بين يديها.ولهذا فهو يرفض كل السرديات الأخرى من جهة ويعمل على نفي المؤمنين بسردية غير سرديته،ولهذا لا تختلف الأصولية الدينية عن الأصولية القومية، ولا عن الأصولية الشيوعية في الأخلاق الأيديولوجية.
يضع المتعصب الأيديولوجي الآخر المختلف في حقل الصفات المرذولة المتفق عليها ،اجتماعياً،على أنها انتقاص من الموصوف، فالنقاش بين المختلفين أيديولوجيا مستحيل ،والحوار يحتاج إلى اعتراف متبادل بالحق والتفكير والحرية.ولهذا تقود الأخلاق الأيديولوجية إلى الشجار، والشجار الأيديولوجي معركة وقودها الحقد والكلام النابي.
وعندما اتحد الانحطاط السلطوي وتعميم انحطاطه، مع الانحطاط الأيديولوجي ، انتظم تدمير القيم البلاد والعباد.
أحمد برقاوي