د . نجاة عبد الصمد – الناس نيوز ::
مقدمة – صدرت حديثًا عن دار منشورات الربيع في مصر رواية جديدة للكاتبة السورية سوسن جميل حسن بعنوان “وارثة المفاتيح” تركز في محتواها الكاتبة على وضع الأسرة السورية، وما أحدثته الحرب الحالية، وما قبلها من سنوات الضياع ، من تصدع في مجمل البنى المجتمعية والأسرية.
كذلك تتناول الرواية مفاهيم عدة، كالحب، والعلاقات الإنسانية، والمرأة، والشخصية الامتثالية، وغيرها من المفاهيم والقيم التي نالها العطب.
المعالجة والتفاصيل .
بقراءة “وارثة المفاتيح”، رواية الأديبة السورية سوسن جميل حسن، تحضر في البال مقولة آغوتا كريستوف، الروائية الهنغارية المتفرّدة: مهما كان كتابٌ ما حزيناً، فإنه لن يبلغ قطّ درجة حزن الحياة!
هو الحال في وارثة المفاتيح بدءاً من العنوان؛ كم مرّةً نقول كلمة (مفتاح)، في يومياتنا وفي خيالنا وفي مناجاتنا، مفتاح البيت ومفتاح الخزنة ومفتاح السرور والأمل بالإيمان أو بالحظ، ومفتاح الدخول إلى قلب ابنٍ أو أبٍ أو صديق، ومفاتيح المصائر! ومن يرث هذه المفاتيح؟ أهو البيت أو ساكنوه أو واحدٌ منهم أو غرباء أو يدُ الله أو يد سُلطةٍ ما، تستعير سطوتها من الله كليّ القدرة؟ كلّ هذه المفاتيح تتداولها الرواية، وإن كانت انتهت، برمزيتها، إلى بنت عفيف ورضيّة، صغيرة البيت التي كبرتْ من دون أن ينتبه إليها أحد.
في هذه الرواية، وما سبقها للكاتبة من أعمال، تفرّغتْ سوسن جميل حسن حوالي ربع قرنٍ لعملها في الطبّ، تقاوم أعباء الحياة بعلاج المرضى، إلى يومٍ ربما فاض حزنها فوق احتمال الذاكرة، فاستسلمت مؤخراً لنداء الكتابة، لمداواة آلام الحياة بالكلمات. وُلدتْ روايتها الأولى: “حرير الظلام” 2009، أتبعتها “ألف ليلة في ليلة، النبّاشون، قميص الليل، خانات الريح، اسمي زيزفون، وصلتْ إلى القائمة الطويلة لجائزة البوكر العربية.
نقرأ في “وارثة المفاتيح”/ منشورات الربيع، مصر، 2024 حال أسرةٍ تقيم في اللاذقية، وقد ينطبق الحال على أية جغرافيا سوريّة، في تشظّيها وضياعها، كيف طحنتْها أرزاء لم تبدأ في عشر السنوات الأخيرة، إنما تستكمل بداياتها منذ عقود. تنويعاتٌ على حكاية أربعة أجيال تعيش في المدينة والريف، تتقاسم نسخاً متشابهةً أو متكافئةً من المعاناة، وفي ثناياها تمرّ خلاصاتُ حكاية البلاد، مصير سوريا، (صفحة 108: صارت بلادنا مثل حمارٍ بلا صاحب، لم يبق ابن حرامٍ إلا ووضع أثقاله فوق ظهره..)، منذ جيل العمة مزنة الشغّالة خادمةً في بيت الضابط الفرنسيّ، ابتلعت لسانها طوال الشباب، وأفلتتْ منها شذراتٌ ترويها لعفيف، ابن أخيها الشرطيّ المسالم، الجبان حيال نفسه وزوجته رضيّة، المرأة الجميلة عاشقة الحياة، والجوعانة إليها حدّ أن تسلك طرقاً سوف تتكسّر تحت قدميها وتهوي أحلامها مكسّرةً مثلها، إلى أولادهما الثلاثة عابد وغيداء وسمرا وستيفان زوج غيداء، ومدام روزا عرّابة وصول رضيّة إلى الباشا، فرع السلالة المتحكمة بمصير البلاد، حتى الجيل الرابع يختصر حكايته غزوان ذي النسب الهجين.. مصائر تطرم الآذان بدويّ مصائرها وهي تتساقط على أمداء 232 صفحة.
الروي الماهر وحده مَن يستطيع نظم هذه الأرواح المثقلة بالألم، ويلمّ شمل هذه الأسر المفكّكة، عبر واحدٍ وعشرين فصلاً، بصوت الراوي العليم، تُداخله مونولوجاتٌ بأصوات شخوص الرواية، وحواراتٌ لم تعرضها الكاتبة على الصفحات كما تعوّد القارئ على تمييزها بعارضةٍ أمام قول المُحاور، أو تضمين قوله بين هلالين صغيرين، بل طعّمتْ بها رويَ السارد العليم، فلم يفقد الحوار وظيفته في الرواية، ولا بهتَ السرد ولا قلّ التشويق.. سردٌ أفلح في أن يكون هادئاً ومشتعلاً معاً، يتلاحق عبر لغةٍ بسيطةٍ وعالية، لا يتعب القارئ معها ولا يملّ ولا يضيع في كثافة الأحداث، تتخلّله إطلالاتٌ لطيفة على بيكاسو وبعض أعلام الفن التشكيلي الأوربيّ، وخلطات عطور كريستيان ديور وشانيل، وتاريخ كرة القدم، وبالتأكيد مروراً على قطف وتجفيف الدخان، وتقطير العَرَق البلدي في البيوت..
أسرة عفيف التي تبدو على السطح عاديّة، بينما تحمل تناقضات العالم الكبير في قيعانها. مزنة، فاقدة الحنان، أفرغتْ حاجتها إليه باحتضان ابن أخيها عفيف. والآخرون؛ كلّهم حاولوا إنجاز حلولهم الخاصة، سلبيةً كانت أم إيجابية.
أخلاص مزنة في صمتها على أحزانها، وعفيف في حبه للناس، حاول فكّ المشاجرات بينهم بالتراضي لا بدفعهم إلى دهاليز التحقيق المنحاز إلى الأقوياء. وعلى سذاجة رؤيا عابد، إلا أنها أنقذت بنتاً من عواقب عبث ابن الباشا. ومشوار غيداء وستيفان هو مشوار البلد الطويل في مقاومة سارقيه، (الذين يمسخون الفرد ويريدون الجميع نسخاً متطابقة. صفحة 132)
وهو كفاح نساء الأرض في أقدارهن الثقيلة.
الجميع في أسرة عفيف متعبون واهنون، وإن كان يُرجى لهذه الأسرة أن تقوم من تحت الردم، فالأمل معقودٌ على نسائها وحدهن. يتألم الرجل فيستجدي الاهتمام، وتتألم المرأة فتُقصي ألمها وتنهض عن نفسها وعنه.
لن تمرّ شخصيّةٌ مثل رضية دون الوقوف عندها طويلاً. امرأةٌ حلوة الوجه والقوام، شغوفةٌ بالحياة، وغاضبةٌ على الفقر والحاجة، ولمّاحةٌ للفرص، وذوّاقةٌ لجمال الفنون من حسن الهندام وتسريحة الشعر وصولاً إلى تذوّق الفن التشكيلي. تلك هي مقوّماتها غير القليلة، وغير الكافية أيضاً.
سوف تدفع الثمن في جميع الأحوال. إنما حين لا تتهذّب الرغبات بالتعليم والوعي، يتوه الدليل، ولا يعود جمالها عليها سوى بالوبال، وإن بقي لرضيّة شرف المحاولة غير المدروسة، وتقدير القارئ لها إذ ظلّت مخلصةً لأسرتها على قدر وعيها، واعترفت أمام نفسها أنها خابتْ أخيراً..
وبالعودة إلى مقولة الكاتبة الهنغارية: مهما كان كتابٌ ما حزيناً، فإنه لن يبلغ قطّ درجة حزن الحياة! لا أعتقدها جانبت الصواب، وقد تكون محقّةً وبشدة.
ربما لولا الأدب الجميل لما أمكننا احتمال حزن الحياة. في رواية كريستوف “الدفتر الكبير”، لم يستسلم الطفلان التوأمان حين، تحت وطأة الحرب، رمتْ بهما الأم إلى حضن جدّةٍ بخيلةٍ ونصف مجنونة، اخترعا تمريناتٍ أقسى من مصيرهما نفسه، ليواجها بها إظلام هذا المصير، حتى وإن اقتضى الأمر أن يقتلا شوقهما إلى أمهما وأملهما فيها، أو إلى قتل أبيهما واقعيّاً لا مجازاً.
كذلك عفيف الذي وأد كرامته لينجو، ورضية التي باعت نفسها لتنقذ العائلة، وغيداء وستيفان اللذان قفزا من اللجة أملاً في النجاة في قارةٍ بعيدة. وأخيرا سمرا، البنت غير المرئية، الأمل الحاضر وسط طوق العدم، لعلّها تفرد ما ورثته من مفاتيح ثقيلة، ترمي ببعضها في البحر، وتنتظر انتهاء الحروب في العالم، لتفتح بالأخير بيت العائلة وتأوي فيه إلى حياةٍ عاديّة.