حين نضيف رقم المليون ضحية، الذين سقطوا خلال السنوات العشر الأخيرة بكافة أشكال القتل، إلى ما يقارب التسعين في المئة من الذين ما يزالون يعانون في جحيم الداخل والمخيمات الكئيبة المتناثرة في بلدان الجوار، يحق لنا أن نتحدث عن حقيقة الموت السوري متعدد الأشكال والأنواع، وآخره الجوع السافر أو اللهاث وراء شبح لقمة العيش، حتى أنه يمكن القول بأن من يعيشون في سورية الآن هم أولئك الذين يرتبط رغد عيشهم باستمرار جوع الآخرين ومحنتهم؛ أي الذين يديرون عملية التجويع ويستثمرونها ويغتنون منها، ويلعقون ما تبقى من دماء الضحايا من على أفواههم بتلذذ.
وكي يأخذ الموت كافة أبعاده الشعائرية وطقوسه، بات بعض الأحياء – الموتى يعلنون عن طقوس انتحارهم على الملأ، كخطوة لم تعد بالفعل انتقالًا من الحياة إلى الموت بالمعنى الكلاسيكي للكلمة، إنما هي مجرد نصف خطوة لتجاوز تلك المسافة القصيرة المتبقية بين الحياة والموت. من هنا يصعب الحكم على المنتحرين بهذه الطريقة، فهل ثمة أخلاق أو مقولات أخلاقية يمكن تسويقها حين يتحول الإنسان إلى كائن يبحث عما يجعله على قيد الحياة بالحدود الدنيا، كتلبية لنداء غريزة البقاء وحسب؟!
ربما كان على السوريين أن يصلوا إلى هذه المرحلة ليدركوا أن ما يجمعهم هو الحياة قبل أي أمر آخر، وأن ما يفرقهم هو مجرد ترف لم يعودوا بعد الآن بحاجة لاعتباره مشكلة، ولن ينقادوا إلى الخوض فيه مجددًا. صحيح أن الأمر يبقى برسم المستقبل، لكن الدرس كان قاسيًا من أجل تجاوز حالة الصراع العدمي هذه، شريطة إزالة الأسباب التي قادت إليها. والأهم هو أن تبقى الذكريات المريرة حاضرة من أجل عدم إعادة الكرّة واستيعاب الدرس، لا أن تُنثر بذور الانتقام من جديد، وذلك اقتداءً بشعوب كثيرة مرت في مثل هذا الجحيم، ومنهم الألمان الذين تجاوزوا محنتهم وأصروا على تحويلها إلى مجرد ذكرى سيئة.
الحق أن السوريين لم يحتربوا لخلافهم واختلافهم، لكن تدجينهم منذ عقود وإشاعة الفرقة بينهم جعلهم غير قادرين على التواصل فيما بينهم وتنظيم جهودهم واتخاذ المبادرات التي قد تنقذهم من الانزلاق في وحل المخاوف والفتن، ما سمح للمتحكمين برقابهم في الداخل والمستغلين لعجزهم في الخارج أن يبحثوا عن مصالحهم وسط الخراب والموت، وعلى حساب حياتهم جميعًا.
من جهة ثانية، ثمة في التاريخ لحظات فريدة تخسر الشعوب فيها الكثير إن لم تستغلها بوعي، وفيها يتكثف الزمن بحيث يصعب اتخاذ القرارات والمواقف إن لم يكن قد تم التحضير لها أو التفكير فيها مسبقًا. من هذه اللحظات ما حدث في ربيع 2011، فلم يكن الخطأ بالمطالبة بالحرية، التي تحولت فجأة إلى كلمة ملعونة عند من وضعوها بالمرتبة الوسطى في شعار الحزب الذي قاد حياتنا إلى التهلكة، رسميًا منذ دستور 1973، أو سمح بأن يجري ذلك باسمه، ولو أن الدساتير في سورية الاستبداد لا تعني شيئًا عند اللزوم.
وفي هذه اللحظة التاريخية التي شهدت انبثاق مطلب الحرية، تجلت نتائج السياسات السابقة بوضوح، فعوضًا عن أن تجمع هذه المناسبة السوريين فقد فرقتهم، مع أنها كانت لحظة تحدي للواقع القائم على استمرار تعسفٍ بات كقدر يُراد تأبيده في الضد من كل قوانين الطبيعة والحياة. لا يمكن أن تُستعاد لحظة اليقظة تلك، لكن يمكن الاستفادة منها كدرس من أجل تأطير مفهوم الحرية السائب في دستور وقوانين جديدة لبناء دولة عصرية.
ومع أن التاريخ لم يدخل عصر الأخلاق إلا مؤخرًا، وبكثير من التردد والالتباس، فإنه يمكن القول بأن مناهضة تلك اللحظات والوقوف في وجه المطالبين بالحرية ليس من الأخلاق في شيء، والنتائج باتت الآن جلية، إذ لم يكن موالو الأمس، الذين يكابدون الآن، قادرين على استيعاب اللحظة المباغتة، وقد أصابهم العماء التاريخي وفقدوا القدرة على التمييز، وتوهموا بأنهم سينجون على حساب من يفترض أن يكونوا إخوتهم في الوطنية والمواطنة الغائبتين، وأن الكأس المرة ستدور عليهم. في المقابل، لم يتوقع من ساندوا شعار الحرية بلا تحديد أو شرط بأن ثمة مأزقًا سينتظرهم بمثل هذه المأساوية، وإن الحرب ستطحن الجميع في نهاية المطاف.
كانت تلك الفترة العصيبة فرصةً لا تعوض بالنسبة لطالبي الحرية، على غموض الفكرة وأحقيتها في آنٍ معًا، خشية أن يفقدوها ويعودوا إلى “القفص”، مثلما كانت فرصة بالنسبة لمناهضي الحرية لتكريس ما هو قائم ضد منطق التاريخ، ملتقطين الإشارات السلبية والشوائب فقط من الجهة المقابلة لتبرير مواقفهم. على العموم، كانت لحظة يصعب فيها على الجميع التعقُّل، وقد ترك العقلاء، إن وُجدوا، أماكنهم لشياطين الموت من كل نوع.
ليست هذه هي المرة الأولى التي تحصل على امتداد التاريخ الحافل بالأمثلة عن الخراب وإعادة البناء وعن اليقظة بعد الغفلة. كما أن الموت والجوع ليسا ما يوحد السوريين فقط، بل وإرادتهم المستجدة حول تجاوز الماضي والعمل من أجل مستقبل الأجيال الجديدة. إنها نقطة البداية المؤجلة والفرصة السانحة لينهض الجميع سوية ويتجاوزوا الخدعة بعد كل ما حصل، وأن عشر سنوات هي أكثر من كافية لوعي أن الحياة ثمينة وتستحق العيش والعمل من أجلها.
منير شحود