ميشيل سيروب – الناس نيوز :
تؤكد صور قيصر المُسربة عن المقتلة السورية ما كتبه محمد برو في شهادته عن سجن تدمر الرهيب. كما تُساهم مُحاكمة جلادي النظام في ألمانيا بتعزيز سردية التعذيب والقتل المُمنهج، تلك السردية التي سطرها الروائي بتفاصيل الحياة اليومية في سجن لا مجال لمقارنته: لا بالسجون الإسرائيلية ولا بمعتقلات ستالين ولا بمعتقلات السافاك أيام الشاه ولا بسجون الحرس الثوري الإيراني، ولا بأعماق السجون في العراق منذ نوري السعيد إلى صدام حسين . فقط يُمكننا أن نقارن يوميات سجن تدمر بمعتقلات النازية في أوشفيتز، الموت أكثر رحمة من التعذيب.
1970 عام الرماد وصناعة الخوف:
شهدت السبعينيات من القرن المنصرم صراعاً دامياً بين الطليعة المقاتلة الإسلامية ونظام سعى لتعميم الاستبداد ومصادرة الحياة السياسية.
كانت جريمة مدرسة المدفعية في حزيران يونيو من عام 1979 البداية لحرب طائفية يتقاسم مسؤوليتها نظام طائفي حاقد في سوريا وحزب عقائدي أصولي طائفي ، كانت البداية التي أعلن فيها الأسد الديكتاتور حربه على المجتمع ووأد الحريات. حينها مارستْ السلطة إرهاب الدولة بكل قسوة وعلى كل الاطياف انطلاقا من عداوتها المتبادلة مع فصيل يشبهها في كثير من الجوانب ، بعد أن نالتْ “تفويضاً ” إسرائيليا ومن خلفه داعميه.
في تلك السنوات سيحوَّل النظامُ حزبَ البعث إلى كُرة تلهو بها أقدام”أبو حيدر وأبو علي وأبو جعفر ” مجرد رقيب أو مساعد في سلك المخابرات، وبذلك يكون قد ألغى دور الحزب الحاكم تماماً، ليتسيَّد رجل الأمن والجيش. واستطاع بمكر افتتاح دكاكين سياسية تعرضُ بضاعة تالفة باسم”الجبهة الوطنية” جبهة ضد من؟ حينها نضجتْ مقولة” منْ ليس معنا فهو ضدنا” وكانت أصدق تعبير لتمرير سياسة العنف والقمع وشعار ” سوريا الأسد إلى الأبد ” الشعار الذي استمر لاحقا لعقود وإن تغيرت مفرداته ” الأسد أو نحرق البلد ” .
وكما تنبأ الكاتب الكبير محمد الماغوط ذات يوم قائلاً: “سيتركنا العسكر على قارعة الطريق بلا مستقبل”، بل وسيخرج شبيحة النظام أنفسهم من المولد بلا شنكليش، وكل التضحيات التي قدمها مُريدو النظام على مذبح الاستبداد، ذهبتْ أدراج الرياح، وباتت ربطة الخبز معجونة بالذل والمهانة، بينما الأسرة الحاكمة تعبث بالمليارات في دول الشرق والغرب “.
إنها أبرز صورة من صور الحط من الكرامة الإتسانية والعبث.
صناعة الموت:
في رواية “ناجٍ من المقصلة” نتلمس حجم الكراهية والموت المُمارس والمدروس بشكل يومي .”فقد كان ينتقم ثأراً لذاته…كان يتصف بحقد عميق عصي على النسيان”ص65 لم تُعممْ هذه الكراهية ولم يخرج هذا العنف إلا من معطف رجل مهووس ومريض، رغبة بكسر الإرادات المعجونة من تصميم على التغيير ومواجهة الموت بصلابة ستُدونُ هزيمة الجلاد. في الشهادات التي وصلتنا عن سجن تدمر، تلمسنا العنف اليومي على مدى أيام وشهور. كتبَ آرام كرابيت وراتب شعبو وياسين الحاج صالح ومصطفى خليفة، كتب هؤلاء جميعاً ، وغيرهم ، شهادات عن صمود السجناء السياسيين وعن التعذيب والمهانة ودونية السجان، لكن كل تلك الشهادات لم تتلمس رائحة الموت الذي لامسه الشاب اليافع آنذاك محمد برو ابن حلب في شهادته وهو في سن السابعة عشرة.
في الرواية ( الوثيقة )سرديات لم يتناولها الروائيون الذين سبق وأن كتبوا عن محنة المُعتقل والتعذيب. تُعد شهادة السوري محمد برو وثيقة هامة تُضاف لآلاف الوثائق التي تُدين مُمارسات النظام منذ أربعة عقود.وهي جديرة أن تُقدَّم كدليل في محكمة الجنايات الدولية. في هذا الجحيم يتساءل محمد برو في روايته التي أرسل نسخة منها لجريدة ” الناس نيوز الأسترالية الإلكترونية :” يا لرحمة السماء . نساء في هذا الجحيم ! ماذا تفعل النساء في تدمر… واستطعنا أن نعد بضعاً وعشرين امرأة، جميعهن يرتدين السواد”. ص227.
هذه أول شهادة توثق وجود نساء في سجن تدمر العسكري.
في حفلات التعذيب وممارسة أشد أنواع الاِنحطاط الوحشي لدى الجلادين، يؤكد برو على سابقة لم يُدونها أحد من قبله، وهي سابقة تؤكد حجم الهوس بتوثيق الكراهية وحمامات الدم التي تخرج عن الإطار السياسي إلى ما هو شخصي وطائفي، كان حينها يتم تحويل السجان من محض إنسان إلى كائن بهيمي يتلذذ بتعذيب الآخرين.”كان مُصور الفيديو يوثِّق هذه اللحظات، التي تُنقل كما جرت إلى القصر الجمهوري في دمشق”ص257.
السلاح الكيميائي ومجزرة تدمر:
في الرواية شهادات لضباط من سلاح الطيران وسلاح المدفعية وسلاح المشاة على التجارب التي أجريتْ على معتقلين في مركز عسكري خارج سجن تدمر العسكري. وهذا الفصل من الكتاب يُعد من أصعب الفصول وأكثرها تجسيداً لمشاهد الجحيم في سجن كان تجسيداً للكراهية واحتقار الجنس البشري.” فقد أحصى بعض المهتمين أكثر من ثلاثين تجربة لأسلحة كيميائية، وكان عدد الضحايا في كل تجربة يتراوح بين عشر ضحايا وثلاثين ضحية مما يعني أن خمسمئة سجين تدمري لقوا حتفهم في تلك التجارب”ص328.
لقد اعتمد نظام الأسد على الفساد كما اعتمد الاستبداد للاِستمرار في الحكم وتأمين توريث سلس كما كان يحلم الأسد الأب.
ولم يقتصر الفساد على المؤسسات المدنية والوزارات ذات الصلة بالمال العام، بل تسلل الفساد في وضح النهار، إلى إدارة السجون أيضاً. وعن مُدير السجن سيئ الصيت فيصل غانم يكتب محمد برو:”… كان يبيع أذونات الزيارات الخاصة لمن يتمكن من دفع قيمتها… كان أبوه وأمه يستقبلان من ابتسم له الحظ”ص263.
يوثق محمد برو تفاصيل مجزرة تدمر ومسؤولية رفعت الأسد قائد سرايا الدفاع آنذاك، عن تلك الجريمة المُروعة التي مازالت بعض فصولها غائبة.” تَسربَ الخبر أن عناصره داهموا سجناً صحراوياً، بعد أن تم نقلهم بطائرات الهيلوكوبتر إلى مطار(تدمر)العسكري، وقتلوا جميع من فيه، وكانوا قرابة الألف سجين أو أقل قليلاً ولم ينجُ منهم سجينٌ واحد.”ص76.
سيتبادر إلى ذهن القارئ سؤال مشروع، لماذا لم يتم تصفية جميع السجناء أهي رحمة وشفقة من “القائد” ( القائد ، كانت هذه تسمية رفعت بين أنصاره ) أم هي من مُصادفات القدر أن يتم تصفية البعض والإفراج عن آخرين؟ لقد أبقى النظام على حياة مُعتقلين كي يكتبوا سيرة الموت والكراهية كناجين من المقصلة، لمن سيتجرأ لاحقاً أن يفكر خارج منظومة الاستبداد.
وهذا السلوك كان واضحاً بعد قيام الثورة أيضاً.
إن منْ نشر صور حمزة الخطيب هو النظام ذاته، ومنْ عممَّ شعارات “الأسد أو نحرق البلد” هي ذات الجهة … أرادها النظام بلاداً حزينة وحناجر من حديد صدئ، حناجر من بلاستيك تُردد بالروح بالدم، لم يخطر بباله أنَّ شعباً عظيماً لن تُرهبه خسة الجلادين. سيستعير النظام أدوات حكمه من عمائم الظلام في طهران ومن عصابات ترتدي حلة أردأ من حلة المجرمين باسم الممانعة! العمل الأدبي مبني في ظروف قاسية وقاتمة، لا يستجدي قيم الجمال كالأعمال الروائية والمذكرات، وهو لا يُعول على من فقدَ بصيرته واختار شاطئ العار والجريمة. إن شهادة محمد برو صرخة لعلها تُوقظ ضمائر أولئك الذين مازالوا يخوضون في سجالات عقيمة: هل من المعقول أن ترتكب القيادة الحكيمة كل تلك الجرائم والمجازر التي غيّرت كل سوريا ؟.