كثيرة هي الحقوق التي حُرم منها السوريون تحت حكم نظام الأسد، ابتداء من حرمانهم من حق الحرية والكرامة إلى حرمانهم من حق الحياة ذاتها.
غير أنه من القسوة بمكان أن يحرم السوري أيضاً من حق “اللايك”، فمعظم المقيمين في الداخل يتحرقون للتفاعل مع كتابات السوريين المتحررين من سلطة العصابة، باعتبارها صدى حقيقياً لدواخلهم ومعبراً عن موقفهم
الحقيقي الممنوع إعلانه، وهم ينظرون لتلك الكتابات بعين مليئة بالإعجاب المختلط أحياناً بالحسد، ولربما تفاقمت شهوة “التلييك”، مع أي بوست يقرؤونه حتى لو كان مجرد شتيمة للنظام وأتباعه، فما بالك إن كان تحليلاً
عميقاً للشأن السياسي يدين الأسد وأتباعه ويفضح ممارساتهم الإجرامية.
غير أن الحلم شيء، والواقع شيء آخر، فسوريّو الداخل ممنوعون من وضع الإعجاب ولربما دفع المعجب حياته ثمناً للايك واحد، هم في الحقيقة ليسوا ممنوعين بقرار معلن، بل هم من يمنعون أنفسهم تجنباً للمصير الذي ينتظر
كل من يعيش تحت سيطرة النظام عندما يظهر شيئاً من حقيقة موقفه للعلن.
أما النظام فقد ترك وسائل التواصل الاجتماعي مفتوحة ليحولها إلى مصيدة يمكنه من خلالها فرز الشعب وملاحقة من يعلن الخروج عن الطاعة، فالنظام واثق تماماً من كره الشعب له ويعرف أن المحبة التي يظهرها هي
محبة بالإكراه، ولذلك فهو يطارد من يعلن موقفه ولو بـ لايك، ومن الغريب حقاً أن يمتلك النظام جهازاً أمنياً متفرغاً لتتبع الإعجابات التي يضعها السوريون على منشورات غيرهم.
لا تنطلي على أجهزة المخابرات بالطبع خدعة إغلاق الحسابات على وسائل التواصل، بحيث يتنكر صاحب الحساب يوما ما للايك وضعه لأحد المعارضين، ولذلك فهم (المخابرات) عادة ما يقومون بطباعة الصفحات
الفيسبوكية وإرفاقها بملف السوريين المشكوك في أمرهم لعدم إعطائهم الفرصة للإنكار في حال اعتقالهم.
ومن الغريب أيضاً أن تهتم المخابرات السورية أحياناً بفكرة الأدلة، فهي تستطيع إلصاق أي تهمة بأي مواطن وإجباره على الاعتراف بها، سواء أكانت تهمة وضع لايك على منشور، أو اتهامات بالتآمر والإرهاب وعمليات
التجسس، فكل التهم التي يراها النظام يستطيع إلصاقها بالمواطن دون قيد أو شرط، ومن هنا تبدو فكرة البحث عن الدليل نوعاً من الرفاهية الاستخباراتية ولا تدخل أبداً في باب الاحتياج.
يتفهم السوريون المعارضون تماماً إحجام أهلهم وأصدقائهم في الداخل عن التفاعل مع منشوراتهم بسبب حجم الضرر الذي يمكن أن يلحقه التفاعل بصاحبه، غير أنه بات على السوريين أيضاً تفهم إحجام السوريين في الخارج
عن التفاعل، فمعظم المقيمين في أوروبا وأمريكا وأستراليا وكندا وبلدان العالم كلها لا يجرؤون أيضاً على وضع لايك على منشور، بل كثيراً ما يتصل هؤلاء بصاحب المنشور ليعبروا له تلفونياً عن إعجابهم دون أن يتركوا دليلاً
للمخابرات ينبئ عن موافقتهم على كلام يقال ضد النظام، فلربما اضطر أحدهم للذهاب إلى سورية يوماً ما، ولذلك عليه أن يحافظ على سجله نظيفاً من أي لايك ومن أي مشاركة في جريمة نقد النظام، ومن ناحية أخرى،
فالكثيرون ممن يعيشون في الخارج لديهم أهل وأقرباء في الداخل ولا يريدون أن يعرضوهم لانتقام النظام. (لكم أن تتخيلوا هذا النظام الذي يلاحق أهل من يضع إعجاباً على منشور معارض).
وإذا كان بعض السوريين المقيمين في الخارج والخائفين من أي تفاعل مع كتابات المعارضين يبقون على المعارضين أصدقاء على صفحاتهم، فتلك جرأة لا يقدر عليها سوريو الداخل الذين يضطرون لاستعمال “البلوك” مع
كل من ينتقد النظام تجنباً لمصير مجهول. ولكن المقيمين في الخارج لا يمتلكون الجرأة على الإبقاء على صداقة المعارضين إن اضطروا للذهاب إلى سورية، وغالباً ما يقومون بإغلاق حساباتهم على وسائل التواصل قبل
السفر، أو بمراجعتها بدقة للتأكد من أنها خالية من أي تفاعل مع الخونة (أي مع من يتجرؤون للحديث عن النظام وإجرامه).
ثمة من يضع لايكات للمعارضين إن نشروا منشوراً إنسانياً لا يمكن أبداً أن يحمّل ببعد سياسي وينأون عن وضع لايك على منشور سياسي مهما أعجبهم، وهؤلاء يستحقون وسام الشجاعة فعلاً، فالتفاعل مع منشورات
المعارضين للنظام ممنوعة ومحرمة حتى وإن كان هؤلاء يتحدثون عن الرياضة أو الفن..
يعرف السوريون أن عقوبة التعليق على منشورات ضد النظام أصعب وأقسى بكثير من عقوبة اللايك، فإذا غامر سوري يعيش في مناطق سيطرة النظام بوضع لايك على منشور غير سياسي كتبه أحد المعارضين، فلن يكون
متهوراً إلى الدرجة التي يكتب فيها تعليقاً لصديق معارض يوافقه فيه على رأيه أو حتى يخالفه، فلا شيء يضمن ردة فعل المخابرات حتى وإن كنت تشتم معارضيها ولكن أن تقوم بالتعليق على تلك المنشورات فهو مستوى أعلى من الإجرام ولا يستحب الإقدام عليه.
وبالطبع، فإن الخوف من “لايك” لا يدين السوريين ولا يدل على جبنهم، بل يكشف عن مدى إجرام النظام وأجهزته الأمنية، على مستوى القمع والبطش والتخلف أيضاً، فأية عقلية، وأي جاهلية تلك التي تحاسب الناس على مجرد تفاعل على وسائل التواصل الاجتماعي!
إنها أكبر من مهزلة، وأكثر من وصمة عار على جبين البشرية أن يغض العالم بصره عن بلطجي مسلح ومجنون يفعل ما يشاء وهو مطمئن تماماً أنه مطلق اليدين، وأنه خارج احتمالات المحاسبة ( راهناً على الأقل ) ، فيما يترك
شعب كامل لقدره ومعاناته، شعب بات عليه أن يحصي أنفاسه بيديه، وأن يقمع نفسه بنفسه، وأن يكون تمجيد قاتله شرطاً أساسياً لإبقائه على قيد الحياة.