فارس كنعان – الناس نيوز ::
“سننفجر، ستنفجر هذه البلد بنا وبهم”. بهذه الجملة المختصرة لخصت الموظفة الحكومية في دمشق منيرة أحمد، حال سورية هذه الأيام من وجهة نظرها التي لا تحتاج فراسةً ليكتشف من يقف قبالتها كم من الحنق والغضب والقهر يخرج مع تواتر حبالها الصوتية، لترسل كلماتٍ تقول هي عنها إنّها “هدّت رجال وطنها وهجرّت شبابه وقتلت أحلام أطفاله”.
قبل أن تضيف: “ماذا سأقول؟ ولو قلت ماذا سيتغير؟ ولو قلت هل من ضامن ألّا أبيت ليالٍ في التحقيق بتهمة الخيانة؟ أنا فقط أريد أن أحكي عن حالنا دون خوف، ماذا تفعل بنا هذه الحكومة واجهة النظام ؟ هذه السياسة الاقتصادية؟ لا شيء، هم فقط يوجهون لنا رسالة صغيرة لطيفة مفادها أنّ من بقي في الداخل السوري عليه أن يدفع ثمن وفائه لموقف كان يراه أنّه صواب”.
تعتقد منيرة أنّه أمام الجوع لا يعود هناك قضايا حقيقية، يصير هناك فقط بطون جائعة تريد أن تشبع، وعن ذلك تشرح: “بطون تشبع طعاماً وأبدانٌ تشبع كرامة، فهذا البلد صادر حريتنا، ثم موقفنا، فكرامتنا، وأخيراً أمعاءنا”.
الخلفية المباشرة – بين الميدان والاقتصاد
يعرف متابعو الشأن السوري أنّ المعارك العسكرية المباشرة انتهت قرابة أواسط عام 2018، كانت المعارك الأخيرة وقتذاك في محيط العاصمة، غوطتها الشرقية ومخيم اليرموك والحجر الأسود ومناطق مجاورة، وانتهت كلّها باستعادة قوات الأسد سيطرته عليها، تارةً بالنار، وتارةً بالتسوية العسكرية.
حتى ذلك الحين كان ينهار الاقتصاد شيئاً فشيئاً، ولكن بصورة متباطئة جداً، كان ملحوظاً أنّ الليرة السورية حتى بداية عام 2020 قد فقدت نحو عشرين ضعفاً من قيمتها أمام الدولار، (كان الدولار الأمريكي الواحد يعادل حوالي 47 ليرة سورية عشية الحرب عام 2011، وفي أواخر عام 2019 صار الدولار الواحد يساوي نحو 500 ليرة سورية).
عام 2020 كان المفصل الأول واتضح أنّه لن يكون الأخير في اقتصاد السوريين المنهك، في ذاك العام فرضت الولايات المتحدة الأمريكية حزمة قانون “قيصر” للعقوبات والذي يحاصر سوريا اقتصادياً، وبالتزامن شدد الغرب الأوروبي عقوباته، فبدأت تتهاوى قيمة الليرة تباعاً وبشكل متسارع نسبياً.
في مطلع العام الجاري 2023 وضعت الولايات المتحدة قانون مكافحة الكابتاغون حيز التنفيذ، والحقته بقانون تجريم التطبيع مع النظام السوري، وكان ذلك المفصل الثاني الذي دفع الدولار للارتفاع من نحو 5 آلاف ليرة سورية مطلع هذا العام إلى حدود 16 ألف ليرة سورية أواسط شهر آب/أغسطس من ذات العام.
وبالتوازي مع تلك العقوبات كانت الحكومة السورية ومن خلفها الفريق الاقتصادي لا تقف ساكنةً بلا حراك، إنما كانت تتخذ إجراءات اقتصادية منها ما هو يفترض أنّه مدروس، ومنها ما هو لحظي، وتلك الإجراءات، كلّها، بطبيعة الحال جاءت أقسى على المواطن وأشدّ حصاراً على السوريين من حصارهم الخارجي.
مسارات غير متوقعة قوبلت بوأدها
اعتباراً من شهر مارس/آذار الفائت والمصالحة الإيرانية – السعودية التي تمت برعاية صينية بدأت تتسرب الأخبار إلى الرأي العام السوري عن اقتراب مصالحةٍ عربية شاملة مع الدولة السورية، وبوجود مشروع ضخم يقوده ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان وبخطوات إماراتية لتحقيق انفتاح نحو دمشق بالاتفاق مع معظم الدول العربية.
ما عزز تصديق هذه الأخبار هو عاملان، الأول: تسريبها غالباً من قبل وسائل إعلام غير سورية، وخليجية على وجه الخصوص، أما العامل الآخر فهو الزلزال الذي ضرب سوريا وتركيا فجر السادس من فبراير/شباط المنصرم، وفيه بدا أنّ العالم بأسره منفتح على دمشق التي يبدو أنّها كما اتضح لاحقاً لم تحسن استغلال ذلك الانفتاح، فرمت به في عرض الحائط انطلاقاً من عنجهية “المنتصر”.
بين أبريل/نيسان ومايو/أيار من هذا العام عقدت عدة اجتماعات عربية معنية بسوريا بدءاً من اجتماع دول مجلس التعاون الخليجي في جدة مروراً باجتماع عمان، وصولاً إلى اجتماع وزراء الخارجية العرب الذي تمخض عنه دعوة رأس النظام بشار الأسد لحضور القمة العربية في 19 مايو/أيار، وفعلاً هذا ما كان.
في ظلّ كل تلك التطورات انتشى السوريون، عقدوا الآمال الكثيرة على تلك التطورات، شعروا بأنّ الحرب انتهت وبلادهم مقبلة على انفتاح اقتصادي يعيد إلى أياديهم منظر الأموال الذي افتقدوه، الأموال على قلتها.
ولكن كان للسياسة السورية رأيٌ مختلف تماماً، إذ أرسلت فيما بعد رسائل أغلقت بموجبها الدرب أمام استكمال الجهد العربي، وأمام الحوار مع الأتراك والأمريكيين حتى، وتلك كانت صدمة ما بعدها صدمة للجموع، صدمة يمكن لحظها دون سؤال أصحاب الآمال حتى، والجميع في سوريا كان متأملاً.
الخذلان المرير
عاد الناس بعد أشهر من الأمل لأحزانهم السابقة التي يطغى عليها منطق غياب الحلول المستقبلية، لا في القريب ولا البعيد، وصاروا يبحثون على طريقة يعودون فيها لشكل حياتهم ما قبل الخذلان، الأمل أحياناً يقتل، هكذا تقول فلسفات ونظريات أدبية وسياسية كثيرة.
وبكل ما يحمله القدر من سخرية تدخلت السلطة من جديد في عزّ حزن رعاياها، وتلك كانت اللحظة التي غيرت وجه البلاد، وتحديداً ليل الخامس عشر من أغسطس/آب (2023)، حيث أصدرت فجأة قرارات اقتصادية سحبت فيها البساط من تحت القلّة التي كانت ما زالت مؤمنة أنّ حكومتهم ستنقذهم من الموت جوعاً.
القرارات نصت على رفع الدعم عن المشتقات النفطية، ليصل سعر ليتر البنزين إلى 8 آلاف ليرة بعد أن كان 3 آلاف ليرة، أي بزيادة قاربت نحو 300 بالمئة، هي بالضبط 260 بالمئة، ولكن يمكن الاستنتاج ببساطة أنّها 300 بالمئة، وتفسير ذلك بما هو معروف لدى كل أصحاب السيارات، ورغم ذلك سألت جريدة”الناس نيوز الأسترالية ” عينة عشوائية من سائقي السيارات، والنتيجة معروفة، الجميع يعرف، لا يوجد محطة وقود تسرق أقل من ليترين أو ثلاثة من حصة المواطن القليلة أصلاً حين يعبئ الوقود.
ورفقاً بقرار رفع الدعم، رفعت الحكومة رواتب موظفيها بنسبة 100 بالمئة، ليصير متوسط المرتب الحكومي نحو 15 دولار أمريكي (200 ألف ليرة سورية)، بعد أن كان قبل القرار (7 دولار)، حوالي 100 ألف ليرة.
احتيال رهيب
الحكومة قالت إنّها بتلك الإجراءات (رفع الدعم ورفع الرواتب) قد ألغت الوساطات بين مصدر التمويل والمواطن، وبالتالي من شأن هذا الإجراء أن يكافح الفساد والهدر، وبأنّها من وفرة الوقود ستؤمن زيادة الرواتب دون ارتباك اقتصادي يتعلق بموازنة الدولة، متناسيةً تماماً أنّ عدد الموظفين لا يشكل ثقلاً وازناً أمام مجتمع جلّه عاطل أو غير موظف.
“الناس نيوز” أجرت حسبة اقتصادية بسيطة مفادها أنّ المواطن قبل القرار وبعده كان يحق له تعبئة 50 ليتر بنزين شهرياً، كان سعرها قبل القرار 150 ألف ليرة، وكان راتبه 100 ألف ليرة، وبعد القرار صار سعر 50 ليتر بنزين 400 ألف ليرة، وراتبه بات 200 ألف، إذن، هناك عجز بمقدار 200 ألف سيتحمله المواطن بعد أن كان يتحمل عجزاً لا يتخطى 50 ألف.
منير سلّوم مهندس يشغل وظيفة حكومية في دمشق، قال “للناس نيوز” حول الموضوع: “هذه الحكومة نفذت احتيالاً قهرياً على الناس، سرقة بكل عين وقحة، ولنقل إنّ فلان مثلاً ليس موظف ولكن لديه سيارة، ماذا يفعل؟ هل يترك سيارته ويتبرع بماله للحكومة معترفاً لها بفضلها الاقتصادي الذي سيصير منهجاً يتم تدريسه في دول العالم لشدة نباهته وقدرته على اجتراح الحلول التجويعية”.
“سادة الاقتصاد”
في حين تتساءل مريم .خ وهي صيدلانية في دمشق عن غرابة ما يفعله “سادة الاقتصاد” في بلدها، تقول: “لنتفق أولاً أن الحكومة مثل قلّتها، يرسلون لها الأوراق فتوقع دون نقاش، والآن جميعنا يعرف أنّ هناك فريقاً اقتصادياً سريّاً في البلد لا يظهر للعلن، من هو هذا الفريق؟ هل هو فريق مؤهل فعلاً؟ لا يبدو ذلك إطلاقاً، فهو يجيء بحلول لا يمكن أن يجيء بها إلّا شخص جالس على القهوة بلا عمل. والله فعلوا بنا ما لم يفعله العثمانيون!”.
فجوة مدروسة
“اشتهى أولادي الشاورما، أطفالٌ.. ماذا أقول لهم؟ ثلاثة أطفال وأنا وأمهم دفعنا 100 ألف رغم أني أتذكر أنّ هذه الوجبات ما كانت تكلف نصف هذا الثمن قبل شهر، وببساطة لم يبقَ معي مال من مرتبي، لماذا؟ لأنّ الزيادة نقبضها مع الراتب القادم (سبتمبر/أيلول)، في حين أنّ الأسعار تضاعفت منذ منتصف أغسطس/آب”، يقول عبد الحميد نصرة وهو موظف آخر في دائرة حكومية بدمشق.
وبناءً على ما طرحه عبد الحميد كان لا بد فعلاً من الوقوف عند هذه النقطة غير المنطقية في السياسة والاقتصاد، فمن المعلوم أنّ قرار رفع الدعم والرواتب سيجعل الأسعار تتضاعف في السوق، لماذا إذاً صدر القرار ليلة منتصف الشهر، ولم يصدر في موعد صدور رواتب الموظفين؟ وهذا ما جعل الناس تتحمل أعباءً ثقيلة بفرق الأيام بين القبض والصرف.
الجنوب يرفض ويقول كلمته
كلّ مشاعر الناس (الغلابة) على امتداد الخارطة الجغرافية لسورية تمكن أهل السويداء من تحويلها إلى أفعال بعد إغلاق مدينتهم (السويداء مدينة جنوب سوريا معقل طائفة الموحدين الدروز)، إغلاقها بسبب اشتعالها بالمظاهرات غير المسبوقة اعتباراً من الأيام التي تلت القرار المشؤوم.
مظاهرات بدأت بمطالب معيشية بحتة، وسرعان ما تحولت لمظاهرات سياسية تطالب برحيل السلطة الحاكمة، لينضم إليهم أصوات من الساحل السوري في مشهد ما كان يتوقع أكثر متشائمي السلطة حصوله، فلطالما كان الساحل السوري هو الخزان البشري والبيئة الحاضنة المتينة للسلطة، ولكن يبدو أنّ الناس بدأت تدرك أنّهم يجوعون لأجل لا شيء.
أحد الأشخاص مقيم في الساحل السوري طلب من “الناس نيوز” عدم ذكر اسمه لأسباب معروفة، قال: “هذه المظاهرات ومؤيدوها ليست وليدة يوم ومؤامرة كونية وأذرع الخارج وعملاء أمريكا وما إلى ذلك من روايات، بل هي وليدة كبت أدى لانفجار، كلّنا وقفنا مع الوطن وقيادته في لحظة ما، ولكن وقف الناس في الداخل معه على أساس أن تنتهي الحرب وتعود الحياة، لا أن تنتهي الحرب ويقتسمون سرقتنا جهاراً نهاراً”.
ويتابع: “لا نريد حرباً جديدة، لا نريد أيّة نقطة دم من سوري، نحن نريد حياةً لكل السوريين، حياة لا نجوع ونتشرد فيها ولا نمرض فلا نجد ثمن العلاج، نريد عقداً اجتماعياً يصون حقوقنا بقدر ما ينتزع منّا واجباتٍ”.