خبت سريعاً الضجة التي أحدثها خبر تعيين السوري عمر الغبرا وزيراً للمواصلات في كندا، هي طبيعة وسائل التواصل الاجتماعي؛ استهلاك سريع للأخبار، يُراد لنا أن نفهم منه أنه يتناسب مع نمط الحياة السريعة التي لا نعرف منها شيئاً، معشر العرب.
ولكن خبر عمر الغبرا خبا أسرع من المعتاد، الأمر الذي أسعد دون شكّ نظام الأسد. إذ يمكن لنا أن نقسّم كيفية التعاطي مع الخبر عند النظام إلى مستويين، المستوى الرسمي وفيه غاب الخبر تماماً، إذ لم تشر إليه أي صحيفة رسمية أو قناة تلفزيونية أو وكالة إخبارية، وعلى رأسها وكالة سانا، الحريصة على نشر أي خبر متعلّق بأميركا مثلاً، تحت عنوان “عاجل” فاقع الحمرة، حتى لو كان لجندي أميركي جرح نفسه وهو يحلق ذقنه في سفينة تمخر مجاهيل المحيط المتجمد الجنوبي.
أما المستوى غير الرسمي، فحاول أن يتمهّل قليلاً، وبعد أن شعر أن الغبرا معارض بشكل أو بآخر، قامت الصفحات والحسابات غير الرسمية على فيسبوك وتويتر، وهي التي لا تنطق عن الهوى بل بوحي يوحى من الجهات المختصة؛ بكيل الشتائم والاتهامات للغبرا، إلى الحد الذي وصفه فيه حسام حسن مدير قناة سما، على صفحته على فيسبوك بقوله: “حتى لو صار إلهاً أو رباً لن يكون موضع فخر بل سيظل ندبة عار“! ويحك يا حسام، لماذا يكون سوري أصبح وزيراً في دولة عظمى ندبة عار؟
كعادته، حاول نظام الأسد “العلماني” “المتحرر” أن ينقل الكرة إلى الملعب الآخر بسرعة، عبر هجمة مرتدة، إذ وجد بضعة صور للغبرا يشارك في مسيرة داعمة لمثليي الجنس في كندا، فأصبح على الفور “شاذاً وساقطاً أخلاقياً” بحسب وصف الرفيق حسام، وكانت هذه الكلمات والصور كافية ليشعر معسكر المعارضين بشيء من الكركبة تجاه عمر كما هي العادة أيضاً، الآلية نفسها تتكرر دائماً، وقد استعملها الإسلاميون من قبل في إخماد الحنق الشعبي تجاه أي اعتداء منهم على ناشطي الثورة، إذ كان يكفي القول: علماني وملحد… فيسكت الناس قبل أن يكتشفوا متأخرين أن الفاس قد وقع في الراس.
بالعودة إلى موقف نظام الأسد من الغبرا، قد يجد البعض في كونه “معارضاً” سبباً لهذا الهجوم، ولكنني لا أظن ذلك، فالمعارضون أكثر من الهم على القلب. والنظام لم يحارب عمر لأنه معارض أصلاً، لقد فعل عمر شيئاً مختلفاً، شيئاً أقلق نظام الأسد، بل أرعبه أيضاً. وقد يستغرب بعضكم هذه العبارة، ويجد فيها آخرون مبالغة أو تهويلاً، ولكنها الحقيقة كما أظن.
فطوال السنوات السابقة من عمر المهلكة السورية، ابتلع نظام الأسد على مضض قصص نجاح السوريين الخارجين على ملكوت سيادته، نجاحات متتالية في الجامعات والمراكز البحثية الغربية، وفي العمل والمشروعات التي قاموا بها، ولكن الغبرا نجح في أمر آخر مغاير تماماً، لقد نجح في القيادة.. وإنها أمر لو تعلمون عظيم!
فمنذ اليوم الأول للثورة، طرح الأسد ورجالاته معضلة: “من البديل؟“، في إشارة إلى عقم الأرض السورية التي ستعجز عن ولادة قائد ملهم وتاريخي كالأسد أو كرجاله، وجاءت جوقة المعارضة بفوضويتها وضآلة حجم تطلعاتها أمام تطلعات الشعب لتؤكد دعواه، حتى الآن على الأقل. ولكن فجأة تحمل الأخبار نبأ سوري مهاجر خارج الوطن/السجن يصبح وزيراً في دولة عظمى، دون أن يقف أمام سيادته ليؤدي اليمين الدستورية، ودون أن يلبس طقماً سفارياً ويقوم بجولة ميدانية على الرفاق، وقبل ذلك كله، دون أن يحضر جلسة لمجلس الوزراء يستمع فيها إلى خطة سيادته وتوجيهاته الحكيمة لقيادة “المرحلة التاريخية” القادمة بما يكفل تجاوز “المنعطف التاريخي” الحرج الذي تمر به أمتنا في هذا “الظرف الدقيق” من عمرها!
عوض ذلك، كتب الغبرا على حسابه على تويتر بعد استلام منصبه يقول: “لدينا برنامج طموح أمامنا، سنستمر في تطوير منظومة النقل التي يعرف العالم بأسره أنها منظومة آمنة وفعالة وتحترم البيئة“.
بربكم أي هراء هذا؟ منظومة.. آمنة.. فعالة.. بيئة… نقل؟ تباً… كيف لهذا الغر أن ينجح دون توجيهات حكيمة؟ دون أن يعرف أسرار التحديث والتطوير؟ دون أن يشارك في التصدي للمؤامرات والصمود في وجه العدو الغاشم؟ كيف له أن ينجح في مهامه دون مؤامرة أصلاً؟ كيف يسمح لنفسه بأن يصبح وزيراً وهو لم يدبك وينخّ يوماً في “عرس وطني” واحدعلىالأقل؟
لا شك محكوم عليه بالفشل، وسيكون بالتأكيد “ندبة عار” كما رأى الرفيق حسام!
كثيرة هي النجاحات التي حققها السوريون في دول العالم خلال السنوات الماضية، ولكنها في معظمها نجاحات دراسية أو نجاحات عمل، كأن يفتتح سوري ما مطعماً ناجحاً في مدينة أوروبية ما، فتكتب عنه صحف تلك الدولة، أو يستضيف ملك تلك البلاد أو حاكمها، فتصلنا أخباره فنصفق له ونتداول نجاحه على صفحاتنا ومجموعاتنا. ولكن نجاحات أخرى تستحق الاهتمام أكثر، هي نجاحات عمر الغبرا وأمثاله، النجاحات في مجال الإدارة والقيادة والسياسة، تلك النجاحات هي ترهق نظام الأسد، وتجعل صورته بوصفه “النظام الضرورة على شعب من الهمج” تتداعى وتنهار، فخارج الوطن/السجن يمكن للسوري في جو الحرية والديمقراطية أن يبدع في مجالات شتى بما فيها القيادة!
علينا أن نعي جيداً محاولات هذا النظام لتشويه صورة هؤلاء وإسقاطهم ووصمهم، في محاولة منه لتأبيد آيات “سفر الطاغوت“: (وقال الأسد الرئيس: هو ذا السوري قد صار كواحد منا، عارفاً القيادة والسياسة، والآن لعله يمد يده، ويأخذ كرسي الحكم، فيحكم ويصبح خالداً إلى الأبد)!
محمد سلوم .