علي صقر – الناس نيوز ::
أذكر جيداً أنني أمضيت الجزء الأكبر من طفولتي على أبواب الأفران،منتظراً حصولي على القليل من الخبز. وفي ذلك الوقت كان عدد الأفران قليلاً في مدينتي طرطوس التي كانت تمتاز بكثافة سكانية قليلة أيضاً، لكن لحظة انتظاري بين حشد الناس غير المنظم وأنا الطفل النحيل الذي ينتعل شحاطاً بلاستيكياً تخرج نصف أصابعه من مقدمته، كنت أشعر أن كل جياع العالم احتشدت أمام هذا الفرن لتحصل على الخبز…
وكلما اقتربت من البائع دفعني أحدهم إلى الخلف، يبدو أن شبيحة النظام في كل مكان ، إلى أن أضعت إحدى فردتي شحاطتي الجديدة ، اعتقد عفشها أحد عناصر الأمن ، وعدت إلى المنزل خالي الوفاض من الخبز وحافي إحدى القدمين، ما دفع بوالدي لينهال علي بموجتين من الصفعات المتتالية، أولها لعدم إحضاري الخبز، وثانيهما وكانت أعنفها لفقداني شحاطي.
ولعنة الخبز لم تتوقف عند ذلك، إذ كنت أتلقى التعنيف الجسدي والنفسي من أساتذتي في المدرسة، لسببين، الأول تأخري المتكرر عن الصف صباحاً، وذلك بسبب وقوفي للحصول على الخبز، والثاني عدم كتابتي لوظائفي لأنني كنت أنشغل في عد صفعات أبي وعدد الخيزرانات على يدي من أستاذي، واستمر هذا المشهد طوال دراستي الابتدائية والإعدادية.
بعدها تم تحويل الأفران الحكومية وتحولها من أفران تعمل على التمزوالحطب إلى أفران نصف آلية، وذلك بداية الثمانينات، إضافة إلى ظهور تنظيم للدور بين الناس لاستلام الخبز من كوات ثلاث، كان أولها خاص بالعسكريين وثانيهما خاص بالنساء وثالثهما خاص بالرجال المدنيين.
وأذكر أنهم كانوا يضعون داخل الربطة ورقة زرقاء كتب عليها أسماء المرشحين لمجلس المدينة لدورة عام 1980. وعلينا انتخابهم مقابل تأمينهم الخبز.
لم أتابع دراستي بعد الثانوية، بل ذهبت لأداء واجب الخدمة العسكرية الإجبارية التي كانت في دمشق، وحينها بقيت لعنة الخبز ملازمةً لي على الرغم من كوني أعزب وعسكري ولن أحتاج لأكثر من ربطة خبز كل أربعة أيام. وأمام فرن ابن عساكر ووقوفي بكوة العسكريين،سألني باحترام لم أتعود عليه: كم ربطة خبز بدك؟
فأجبته: أريد شحاطي البلاستيك، لأن معدتي تورمت من تناول الخبز الحاف، ولست مجبراً لانتخاب مجلس المدينة من خلال ورقة عليها أسماء لا تشبه الخبز.
نظر الخباز لي قائلاً: الله يثبت علينا العقل والدين، ابتعد من هنا. وهنا بالفعل ابتعدت مسرعاً خائفاً من نفسي، ثم اصطدمت بعربة يجرها رجل عجوز، وأغلب الظن هي التي تجره، يبيع عليها كعكاً طرياً مع السماق، فاشتريت منه سماقاً بدون كعك قائلاً له: كلوا كاتو عوض الوقوف في طوابير الخبز عند الأفران، لتكون إجابته:
الله يثبت علينا العقل والدين.
تسرحت ورجعت الى الحالة المدنية وتزوجت ومع إنجاب الأطفال، زاد عدد ربطات الخبز عن ربطة العسكري الحزين، والشيء الوحيد الذي بقي ثابتاً هو وقوفي في الطوابير للحصول على الخبز، وهنا أحسست أن الزمن ثابت لا يتغير، لكني الآن لم أعد الطفل ذو شحاطة البلاستيك ولا المراهق صاحب حذاء البوما بأصواته ذات الرائحة الوهمية، وأنني ما عدت أخاف من صفعات والدي ومن خيزرانة أساتذتي التي عندما أصبحت عسكري تحولت إلى مسدس يحمل على الخصر… .
عدت للمنزل طفلا في الستين من عمره، دون فردة شحاطة وبدون خبز،وركضت باتجاه المرآة، ورحت أتمعن تجاعيد وجهي الستيني من تورمه، والذي بدا لي في تلك اللحظة كرغيف خبز مقمر لكن لا يصلح للحياة من شدة الصفعات والهروب.