وائل السواح – الناس نيوز ::
بعد ثلاثة عشر عاماً من الغياب القسري، أعلنت عائلة المحامي والحقوقي السوري خليل معتوق وفاته، منهية بذلك فصلاً مؤلماً من الانتظار، ومخلّدة ذكرى رجل نذر حياته للدفاع عن الحق والكرامة.
الرثاء عمل فظّ، فهو يذكرك بأنك لا تزال حيا، فيما أحباؤك راحلون. وهو يخفف عنك في وقت يجب أن يشتد فيه حزنك. والرثاء عمل لئيم، لأنه يساعدك على إسدال ستارة عن جزء من ماضيك.
إنه كجلسة العزاء، تأكيد عملي على أن الحكاية انتهت، والشخص الذي كان بيننا يسعى ويضحك ويغضب، ما عاد بيننا، وأن بابا في ذاكرتك سينغلق كما انغلق حجر القبر على الجثمان المسجى فيه.
لا أحب الرثاء، ولا سيما حين يكون المرثيّ أكثر حياة مني، وحضوره أكبر، وقامته أعلى، وضحكته أعلى، وأثره أعمق. فكيف إذن نرثي رجلا مثل خليل معتوق، كان يعمل من الصباح حتى منتصف النهار في المحاكم، ثم يؤوب إلى مكتبه ليرى زبائنه الذين – في معظمهم – ما كان لديهم ما يقدمونه له سوى الحب والامتنان.
ولهذا، فهذه القطعة ليست رثاء. إنها تجديد عهد لرجل قاتل بالنيابة عنا جميعا وأفنى سنوات شبابه في المحاكم يدافع عنا.

خليل لم يكن سياسياً، ولم يسعَ إلى إسقاط النظام أو تغيير الدستور. لم يحمل السلاح، ولم يحرّض على العنف. كان محامياً يدافع عن معتقلي الرأي، وغالباً ما كان يدفع أتعابهم من جيبه الخاص.
لم يكن إرهابياً ولا متطرفاً، بل كان صوتاً هادئاً للعدالة، وملاذاً إنسانياً لمن لا صوت لهم.
كان يحظى باحترام واسع في أوساط المعارضة والمجتمع المدني والمنظمات الدولية. وكان وسيطاً ناجحاً في فضّ الخلافات، وصوتاً جامعاً بين الفرقاء. لم ينتمِ إلى أي منظمة حقوقية، لكنه كان الرابط بينها، والضامن لعدم انزلاقها إلى القطيعة أو التسييس.
ينحدر خليل من قرية منسية على الحدود اللبنانية السورية، نصفها مسلمون ونصفها مسيحيون، ونصفها في لبنان والنصف الآخر في سوريا. وكان هو الجسر بين الجميع، لا يسأل عن الطائفة ولا عن الهوية، بل عن الإنسان.
في صباح الثاني من أكتوبر 2012، خرج من منزله برفقة صديقه محمد ظاظا، فتم احتجازهما على أحد الحواجز واقتيادهما إلى مكان مجهول.
ورغم المناشدات، استمرت السلطات في إنكار وجوده، رغم تأكيد معتقلين سابقين أنه كان محتجزاً في أحد سجون المخابرات العامة بدمشق، رغم حالته الصحية الحرجة.
لماذا اعتُقل خليل؟ لأنه كان يفضح زيف ادعاءات النظام بأنه حامي الأقليات وعلماني في وجه التطرف.
خليل المسيحي، ومازن درويش العلوي، وندى رستم الإسماعيلية، وعدنان الدبس الدرزي، كانوا يقولون إن النظام طائفة وحده، وإن المعارضة تضم من كل الطوائف، كما تضم السلطة.
كان خليل يضفي البهجة والطمأنينة أينما حلّ. لم تكن الابتسامة الساخرة تفارق عينيه، وإن غابت عن شفتيه. وحين كان يطلب شيئاً ولا يناله، كان يردد: “بيعوّض الله!”
حين اشترى جاكيته الجلدي في عام 2009، كان سعيداً به أيّما سعادة.
كان يرتديه في المحاكم، وفي البيت، وفي المكتب، وفي المقاهي.
آمل أنه كان يرتديه حين اعتُقل، لأن برد الزنازين ممضّ، ووحشة السجانين لا توصف.
مقتل خليل معتوق جريمة حرب تضاف إلى سلسلة جرائم الحرب والجرائم ضدّ الإنسانية التي ارتكبها نظام قتلٍ مجرد من أي ضمير أو أخلاق – شخص تافه لا يساوي قلامة ظفر من أظفار خليل – اسمه بشار الأسد.
المطالبة بالعدالة حق وواجب. حق لخليل ومئات الألوف ممن قضى تحت القصف والتعذيب والحصار، وواجب علينا نحن أصدقاء خليل ومريديه.
أي مساس بحق مبدأ العدالة المساءلة للقتلة وأي تنازل عنه من قبل أي سلطة سيكون بمثابة إعادة لارتكاب الجريمة. لا تسامح مع الأسد والصف الأول من رجاله. ولا تسامح مع من وقف معه ووراءه من أنظمة رخيصة شاركت في قتل خليل.





