ربح النظام الرأسمالي معركته ضد النظام الشيوعي، لكنه خسرها في معركة الأفكار، ما زالت أفكار ماركس متداولة ومعتمدة في الجامعات، ولا يستطيع أي دارس تجاهلها، والاعتراف بها، ولو على سبيل المراجعة والنقد، وإلا لم يكن مفكرًا ولا مثقفًا. أما الستالينية فذهبت إلى مزبلة التاريخ، ولم تعد أكثر من مثال على قدرة الدكتاتورية على تشويه الفكر باستخدامه على الضد لما صنع له.
المعركة الفعلية دارت بين النظامين في مجال الإنفاق العسكري على السلاح، والتنافس على ضم بلدان العالم الثالث إلى ركب تحالفاتهما، والترغيب بمساعدات وإعانات، ارتدت على الشعوب بإحراز بناء المزيد من السجون، وفاعلية أكبر لأساليب القمع والمنع. الخلاصة، هزيمة المعسكر الشرقي، تحت تأثير تداعي الاقتصاد في روسيا، البلد المصدر للأفكار الشيوعية، وإذا كانت المعركة قد طالت كثيرًا، فلأن التفسخ في داخل الكتلة الاشتراكية، كان بحماية الدولة الحديدية.
يروق للغرب الادعاء بأنه ربح المعركة فكريًا، قبل أن يربحها عسكريًا وسياسيًا واقتصاديًا. الأفضل ترك الحكم للتاريخ، لا للمنتصرين الذين بوسعهم التبجح بالحقائق والأكاذيب معًا، دونما خجل ما دام التلفيق عملة سائدة في كل زمان ومكان، ولا نغفل العصور السابقة أيضًا من تزوير التاريخ إلى حد أصبح أزمة مستعصية، ما انفكت تتكرر بلا محاسبة، لا سيما وأن التاريخ لا يسائل ذاته.
عمومًا، لا ينبغي الاستهانة بالمعارك الفكرية، لأن لها دورًا في حسم المعارك الكبرى، ما يحيلنا حاليا إلى قصة الصراع المندلع منذ سنوات بين النظام الليبرالي العالمي بقيادة أمريكا والإرهاب الدولي، تكاد تكون مشابهة لما سلف، من ناحية الزعم بأنها معركة أفكار، لا معركة سلاح، مع أننا لو أحصينا الأسلحة التي استعملت فلا ريب في أنها تشكل حربًا عالمية ثالثة، لم تنته حتى الآن.
وربما في غض النظر عما قيل بشأنها، من ناحية الزعم بأنها تخاض على أرضية فكرية، ما يدحر الأيديولوجيات الدينية التي تحولت إلى تعصب بغيض يدفع إلى القتل ويبرره، وخلق الإنسان المتطرف الذي يعتقد بصحة قضيته، وتبرر له ارتكاب أي عمل من أجلها. أما كيف نفهم الرد على هذا التوحش، ففي أثناء التحضير لحرب الخليج عام 1991 صرح ريتشارد نيكسون في النيويورك تايمز قائلاً: سوف لن تكون حرباً من أجل الديمقراطية، وانما ستكون حرباً من أجل المصالح الحيوية، أي البترول بالدرجة الأولى. وهو ليس مثالا وحيدًا، هناك مئات الأمثلة والوقائع.
كيف سيفهم الأصولي الإرهابي هذه الحرب الديمقراطية، إذا كانت من أجل البترول؟ ألا تمنحه المبرر للمطالبة بطرد الطامعين الغزاة سواء عن تدين أو كفر؟ في الواقع لم يفكر الغرب بشكل جدي في الشعوب الأخرى، او في مصلحتها، أو في حقها في التقدم والديمقراطية والحرية، ما دام أنها تتمحور حول النفط والقواعد العسكرية.
بكل بساطة، الشعوب الأخرى بالنسبة له غير موجودة. والتعامل معها لا يتم على أساس المبادئ، وانما على أساس المصالح الحيوية فقط. أما الحرية، فشأن غربي صنعت من أجل الغربيين فقط، ودائما كانت في مجال تفكيره تقتصر على من يمنحها أو يحجبها، وهذا خاضع لمن يستحقها، فهي ليست مبذولة للآخرين.
لا تتحرك السياسات بفعل الأفكار، ولو تشدق السياسيون بالحقوق الإنسانية، إنها لا تشكل أكثر من غطاء للنوايا والمطامع والطموحات، طالما الذين يمسكون بمقود الإدارات الفاعلة من طبقة رواد الواقعية الصرفة، هذه الواقعية تتحدد بثلاثة عوامل تحرك البشرية وترسم مصائرها: الثروة، القوة، الموقع الجغرافي. أما المبادئ والحقوق والمثاليات، فلا وجود لها في نظرهم، إلا على أنها ملكية خاصة، ولا يحق لغيرهم التمتع بها، فالديمقراطية صنعت على أرضهم، الآخرون يجهلونها، وليسوا أهلا لها. ما الذي يفعلونه بها؟
قبل سنوات لم يفهم سياسيو الغرب ما الذي يقصده ثوار الربيع العربي الشبان بالكرامة؟ هل تندلع ثورات ويقتل مئات ألوف الضحايا من جرائها، ماذا تكون هذه الكرامة، ما دام هناك سياسة ومفاوضات ومساومات؟
هل كان هذا التباين في الفهم، أحد أسباب خسارة العرب معركتهم في فلسطين، ومؤخرًا في تحويل الربيع العربي إلى مجزرة؟ هل هذا يستحق؟ لا يفهم الغرب معنى أن يناضل الإنسان من أجل قضية عليا تتجاوزه، وأن يضحي من أجلها بنفسه إذا لزم الأمر. والأصح أنهم لا يعتقدون بقضايا تخصنا لا يجوز التنازل عنها.
في عام 1996 التقت مساعدة وزير الخارجية لجنوب آسيا مع ممثل حركة طالبان، الذي اشترط ألا تراه وجهاً لوجه! قبلت الشرط. أدارت ظهرها له، وأدار ظهره لها، وتحاورا من وراء الظهور! في رأيه أن مبادىء الدين تمنع الرجل من رؤية المرأة، إن لم تكن زوجته أو أمه أو أخته… اعتُبر هذا تنازلاً شكل هفوة من وزارة الخارجية، لكن الأمر أعمق من هفوة، إنها اعتراف بأن الآخرين يختلفون عنهم؛ لهم طباعهم الغريبة وأفكارهم وأديانهم وتقاليدهم وجنونهم وطغيانهم وعملياتهم الانتحارية… دعهم إنهم يرسفون في أغلال يرتاحون إليها، وإذا أرادوا هكذا تفاوض، فليكن.
طالما يفكر الغرب على هذا النحو، فلا جدوى في محاولات كسر الهوة بيننا، ما دام تشدد طالبان أخذ على أن المسلمين يتفاوضون ظهرا لظهر. إذا أخذت هذه الحالة الشاذة على أنها أنموذج يحتذى، فالتفاهم معدوم، ولن تكون هناك معركة أفكار، بل ستصبح أدياننا وأفكارنا محل إدانة ورفض واستهانة …. ويختلفون عنا بحيث لا تواصل بيننا، إلا في تقاسم البترول وقمع كل من يحتج على هذا الخيار الوحيد للتعامل، وإهمال أن نزوع البشر إلى الحرية والديمقراطية والعدالة لا يتميز به شعب عن شعب.
المفارقة التي ليست مفارقة، هو أنه هذه النظرة الواقعية للغرب تنسجم مع نظرة المستبدين في بلادنا، الذين يعتقدون أن شعوبهم عبيد لهم، وما نعمة العيش إلا مكرمة منهم، فلماذا الحرية والعدالة؟ ولا عجب، فالسياسات المتسمة بالواقعية تتلاقى مع الحكومات المستبدة في هذه النظرة الفوقية.