[jnews_post_author ]
اختار أنصار القديم أن يشنوا منه حربهم ضد الجديد في نطاق الآداب أولا، وقد اختاروا الجانب الجمالي أولا، إذ لم تكن لديهم السلطة السياسية لاتخاذ قرارات يمنعون بموجبها اقتراف الشعر الحديث، أو كتابة الرواية، وإن لم يقصروا في تحريض السياسيين على كبح الحركات الجديدة، وهكذا قالوا إن كلا من الرواية والشعر العربيين فاسدين جماليا. لماذا؟ الجواب هو لأنهما تلوثا بالسياسة، وقالوا بضرورة ابتعاد الكاتب (المقصود هنا هم الشعراء والروائيين والمسرحيين أولا) عن السياسة، وتخفوا صدقا أو مراوغة وراء الزعم بأن السياسة تفسد الجانب الجمالي من المنتج الأدبي والفني، وقالوا إن على من يريد أن يحكي في السياسة أن يذهب إلى المقالة والبحث والدراسة، واتهم الأدب الذي يقارب السياسة بأنه “تقريري جامد لا روح فيه ولا نبض ولا إحساس وإنما هو نشرات صحفية وتقارير وبلاغات حزبية”. وهي أقوال تدعي الغيرة والحرص على سلامة النص الإبداعي من التحرشات الجانبية التي لا تخصه، أو تشير إلى أمر أكثر خبثا هو إبعاد هذه الأنواع، وهي التي تقرأ على نطاق واسع، عن قول أي شيء عما يمارس في قطاع السياسة.
نتحدث هنا عن خمسينيات القرن العشرين حين لم يكن في العالم العربي كله سوى بضعة روائيين وبضعة مسرحيين، إذ أنه كان عقد الشعراء، وكان الشعر الحديث قد بدأ نشأته في الثقافة العربية محاربا. كانت حرب الشعر الحديث تجري على أكثر من جبهة، أبرزها بالطبع جبهة الفن، أي كسره الشجاع لتابو عمود الشعر الذي ظل أكثر من خمسة عشر قرنا يرهب الشعراء ويمنعهم من تطوير أدوات الشعر، بفضل قوة حضوره كشكل في الثقافة والعقلية العربيين. وجبهة السياسة ثانيا، إذ صادف أن ظهرت حركة الشعر الحديث تلك السنوات التي كانت تخاض فيها حروب ومعارك الاستقلال عن الاستعمار الأجنبي في معظم الدول العربية. وقد خاض الشعراء الرواد، (وقد أضحوا اليوم من الأعمدة الكلاسيكية في الأدب العربي) الشبان المعركة بجدارة،
في تلك السنوات كانت نازك الملائكة وبدر شاكر السياب وصلاح عبد الصبور وعبد الوهاب البياتي وأحمد عبد المعطي حجازي ونزار قباني وشوقي بغدادي وغيرهم شبانا، وكان عليهم أن يثبتوا أن باستطاعة الشعر الحديث أن يقدم الجمالي والسياسي معا في توليفة متينة تضمن ألا يطغى أحدهما على الآخر، بل إن المعركة الجمالية كانت ذات أهمية شديدة تتعلق بالبقاء والحياة أكثر من المعركة على صعيد السياسة.
وإلى جانب الشعر كانت الرواية مولودا جديدا شابا يستعد ويتهيأ للانتشار في الساحة، كان عدد الروائيين من الناحية الإحصائية أقل من عدد الشعراء، غير أن ظهور موهبة متألقة مثل نجيب محفوظ كانت كافية لمنح الرواية جواز سفر صالح للزمان العربي الجديد أيضا.
الحقيقة التي لا يعترف بها كثيرون هي أن الأشكال الأدبية الجديدة هي التي سببت هذا الذعر الأيديولوجي، وأن الكلام عن الموضوعات لم يكن سوى عذر تخفوا وراءه.
الطريف هو أن السياسة هي التي راحت تزج بالشعراء والكتاب في السجون فيما بعد.