ليس من السهل إيجاز كتاب من القطع الكبير وعدد صفاته 850 صفحة، والأهم أن كاتبه المفكر والفيلسوف السوري إلياس مرقص، في الواقع هذه السيرة الفكرية هي سيرة شفهية سجلها الراحل على أشرطة كاسيت تزيد عن 64 شريطاً، وهو على فراش المرض (سرطان البنكرياس)، إذ صار من الصعب عليه الكتابة فقام بتسجيل أفكار الفيلسوف العبقري، شلة من أصدقائه وخاصة السيد طلال نعمة، وتم تفريغ هذه الأشرطة بعد سنوات طويلة من تسجيلها.
صدرت الطبعة الأولى عن دار الحصاد نهاية عام 2012، وبعدد محدود جداً من النسخ، وكان لي الحظ أن أحظى بنسخة من الكتاب بحكم صداقتي مع أسرة إلياس مرقص.
أن تقرأ لمفكر من وزن إلياس مرقص يعني أن تستنفر كل قواك وأن تبقى بحالة استعداد تام، وأن تقبل سلفاً الهزيمة، بمعنى أن لا تتمكن من مجاراته في أفكاره وثقافته الموسوعية. تشعر وأنت تقرأ له أنه يُحرك التاريخ، ويقلقل تلك الأفكار والمُصطلحات التي اعتدنا على تداولها دون أن نتوقف ونتفحصها، وأُصر وأتمنى على كل مثقف عربي، وكل مواطن يؤمن بدور الفكر في حل أزمات مجتمعاتنا العربية؛ أن يقرأ السيرة الفكرية لإلياس مرقص، لأنها تساعد إلى حد كبير، على إنارة ساحة الوعي المعرفي وتوجيه أفكارنا بالاتجاه الصحيح، لفهم ما يجري على ضوء حركة التاريخ. خاصة أن ظلام التعصّب والجهل يُطبق على عقول الأكثرية.
يقول إلياس مرقص: لا شك أن البشرية اليوم تقف أمام أكبر مفترق في تاريخها، إن النهاية لقادمة، إما أن تكون نهاية تقدم وحضارة ونظام اجتماعي بالكامل، أو نهاية النوع البشري. البشرية مُخيّرة، ونملك رجاء أن تستطيع البشرية أن تعبر هذا المُفترق، وغرضي أن أقدّم تجربتي للقارئ العربي، ومن حق الشباب العربي أن توضع بين أيديهم السير الذاتية الفكرية لمفكرين. إن ما حصل في تاريخ البشرية في الستين سنة الأخيرة هو شيء خطير، هو عكس ما أرادته البشرية. القنبلة الذرية تروّع الناس.
أذهلني توقّد ذهن إلياس مرقص وهو على فراش المرض، متألماً ومُكابراً، يستحضر كل حياته وطفولته وسنوات شبابه وعمله الصحفي وأسفاره، ولا ينسى اسم أحد من الكتاب والمفكرين الذين عمل معهم والتقاهم، ويتحدّث عن فلاسفة التاريخ وحكّامه ببساطة وغنى معرفي وتحليل منطقي مذهل، نادراً ما قرأت لمفكّر يملك تلك الثقافة الموسوعية، وهذا التفكير الحر، حتى كنت أشعر أنني أحلّق في سماء الحرية وأنا أقرأ له.
يؤمن إلياس مرقص بوجود سلاح وحيد يملكه الإنسان هو الفكر، أو العقل إن شئنا، وعلى العالم أن يتجه أكثر فأكثر إلى إنتاج الذكاء، وأن تكون المناهج التعليمية تميل إلى تحريض التفكير والإبداع لدى الأجيال الناشئة بدل التلقين، ويقول: لو كانت برامج التعليم بيدي في العالم العربي لجعلت كل المواد التعليمية من الابتدائية إلى الجامعة مُجيّرة لقضية واحدة : الفكرة والتحليل.
يؤمن إلياس مرقص أن الحرب العالمية الثانية لعبت دوراً كبيراً في مراهقته، وأن تزامن تلك الحرب من 1939 إلى 1945 هو نعمة رمزية في تربيته وتكوينه وسلوكه. وكان مُتعاطفاً مع معسكر الديمقراطية ضد معسكر الفاشية والنازية، وهذا ما بقي مُصراً عليه طوال حياته، وكم أبدع في التعبير عن أفكاره حين قال: لا أتحمّل أية نظرية عنصرية، ولستُ مُحِباً ومُحترِماً للقوة، إذا كانت الدولة كبيرة وقوية فلا يعني هذا أن أصفق لها لأنها كبيرة وقوية. لا أبداً، إن عواطفي مع الضعيف، أعرف أن في عالمنا العربي وربما في كل بلاد العالم الكثيرون شيوعيون، أو كانوا شيوعيين على أساس أن الاتحاد السوفيتي أقوى دولة في العالم، وأقوى جيش في العالم. هذا أمر لم يكن له شأن بنظري، لا أريد الاشتراكية عن طريق الجيش السوفيتي، ولا أريد الاشتراكية عن طريق القوة. لدي حس عدالة قوي، وكنتُ ألتهب حماسة حين أقرأ لجان جاك روسو في وصفه المجتمع الشيوعي البدائي: الثمار للجميع والأرض ليست لأحد.
الجميل والعميق في مراهقة إلياس مرقص أن حس العدالة لديه كان مُرتبطاً بالحس النضالي، كما لو أنهما وجهان لعملة واحدة، هي إنسانية الإنسان وحريته.
في سنة 1946 أُرسِل إلياس مرقص في منحة دراسية إلى بلجيكا، ويقول إن كل طلاب البعثة اختيروا لكفاءتهم فقط، ولم يكن هناك أية واسطة حتى لابن رئيس الجمهورية أو ابن المحافظ أو ابن القوتلي. وفي بلجيكا رُفض كطالب فلسفة، لأنه لم يكن يعرف اللاتينية واليونانية، وقُبل في قسم التربية والعلوم الاجتماعية، وسحرته مادة أو دراسة اسمها: البيولوجيا في علاقتها مع العلوم الاجتماعية، وتركّز تلك المادة على المجتمعات الحيوانية وعلى المجتمعات البشرية أو الإنسانية. وللتبسيط نعطي مثالاً: لو سأل أحدهم ما الفرق بين مجتمع الطيور أو الغزلان أو أي حيوان وبين المجتمع الإنساني؟ لكان الجواب بإيجاز أن المجتمع الحيواني هو ابن الطبيعة، أما المجتمع الإنساني فهو ابن التاريخ، إن الإنسان بدأ مُفترساً ثم تطوّر وصار إنساناً.
لم ينبهر إلياس مرقص بالفكر الغربي، ولم يصبح تابعاً له، رغم اعترافه بعظمة الفلاسفة الغربيين وتنويرهم لعقله، لكنه كان مفتوناً بفكر المعتزلة، ويعتبر تفكيرهم قمة الحرية الفكرية والعدالة في الدين الإسلامي، ويعبّر عن أسفه وغضبه حين يقول: للأسف تسعة أعشار المثقفين العرب يتصورون أن مصائب العرب تكمن في عدم قدرتهم على اللحاق بأوروبا، أنا لا أريد اللحاق بأوروبا، أريد أن أبني الأساسات، أن أعمّق الأساسات، هناك من يركض اليوم وراء ميشيل فوكو وجاك دريدا، هؤلاء يركضون وراء فرع أو وراء ورقة على غصن شجرة، أنا أريد الشجرة لا الغصن، أريد الأرض وتهمّني الجذور.
لا يرحم إلياس مرقص المثقف العربي، بل يحمّله جزءاً كبيراً من تخلّف المجتمعات العربية حين يقول: إذا كنّا نريد تطوّر الشعوب العربية؛ فيجب أن نبدأ من المثقفين، والشيء الذي يجب أن نستبعده هو المثقف المملوكي، وأقصد بالمملوك السيد العبد أو العبد السيد، هذا النموذج الذي هو سيد على الضعفاء وسلطان عليهم وعبد أمام القوي. وأستغرب موقف المثقفين الذين يستغربون لماذا تصيبنا الديكتاتورية والاستبداد والفساد والعنف والكذب والنهب، كثير من المثقفين العرب يريدون محاسبة الحاكم الفلاني والديكتاتور الفلاني والحزب الحاكم الفلاني ومحاكمته، لكن من واجب المثقفين العرب أن يتساءلوا وأن يفكروا كما يلي: إن الشر حين يستفحل ويستفحل نراه ونغضب ونصرخ، لكن الذكي وصاحب المبادئ يتساءل عن بدايات الشر والفساد، وليس عندما يستفحل، يجب أن يتساءل أنه هو، أنا مثلاً، ما هو دوري في بدايات الشر؟ يمكن من مناقشاتنا في المقهى أن نعطي أفكاراً ونسلك سلوكيات في النقاش تكون هي بذور الديكتاتورية والاستبداد وعناصرهما التي نشكو منها فيما بعد.
ينتقد إلياس مرقص المفردات التي نستعملها دوماً بطريقة ببغائية وبعيدة عن المنطق، مفردات تكلست مع الزمن وتجمّدت معها عقولنا، نستطيع أن نذكر عشرين كلمة صارت في قاموسنا وعقولنا منذ 50 سنة، صارت هي المفاتيح الرئيسة لكل عملنا، من أجل أن نرى العالم وأن نرى الواقع، نحن لم نفحص وندقق في تلك الكلمات حتى، ثورة يجب أن نصفّق، جماهير يجب أن نصفّق، استعمار يجب أن نشتم، إمبريالية يجب أن نشتم.
لا يسعني الإحاطة بكتاب هو عصارة فكر إلياس مرقص، بدون مُبالغة، تشعر أنه يحرك التاريخ ليجعلنا نفهم حاضرنا أكثر وبدون أوهام وعصبية، حسب قول هيغل: الإنسان عدو ما يجهل، علينا أن نفهم كل ما حصل في التاريخ ويحصل فهماً موضوعياً حقيقياً، كي ننجو من مستقبل مظلم.
يخشى إلياس مرقص على البشرية أن تعود إلى عهد العبودية، يخشى أن تحصل انتكاسة في نهاية القرن العشرين ونعود إلى البربرية الأولى، حيث كان الإنسان يأكل لحم أخيه الإنسان، لقد لعب الدين والحضارة دوراً رئيساً في انتشال الإنسان من الحيوانية والبربرية والغريزية، والعبودية كانت تقدماً كبيراً بالمقارنة مع أكل لحوم البشر. وقد قامت حضارات كثيرة على الرق والأضاحي البشرية، إلى أن وصلت البشرية إلى الديمقراطية والتحدّث بحقوق الإنسان، لكن ما يحصل اليوم مُرعب ومخيف، إن البشرية على مُفترق طرق في مصيرها ومستقبلها. ومن حق الشباب العربي أن يتنور بكتب مفكرين عظماء كإلياس مرقص، وأمين معلوف في كتابه الرائع انحطاط العالم.
وأخيراً، كم أحسّ بالإحباط والخزي كون فكر إلياس مرقص لم يُدرّس في جامعات سوريا والعالم العربي. بل تم حشو ذهن الطلاب بعلم جاف ميت لا يمت للمحاكمة والفهم وإنتاج الذكاء والمعرفة كما تمنى إلياس مرقص لجيل المستقبل.
السيرة الفكرية كتاب مُذهل، يستحق أن تُخصص له ندوات ومؤتمرات، لأن لا حل لتخبط البشرية وجنون العنف والقتل والتعصّب سوى بثورة أخلاقية فكرية يقدمها لنا مفكر موسوعي عظيم، سوري من اللاذقية اسمه: إلياس مرقص.