محمد برو – الناس نيوز :
بعد شهرين من الآن، تبلغ السيدة نهاد وديع حداد “فيروز” عامها السادس والثمانين، وهي في قمة عطائها، أرزةٌ لبنانيةٌ يضوع عطرها على مساحة تتجاوز العالم العربي.
بدأت رحلتها مع الغناء في السادسة من عمرها، أي أنها اليوم تكمل ثمانين سنة من الغناء، قدمت خلالها ما يربو على ثمانمئة أغنية، اكتشفها الموسيقار “حليم الرّومي” وأطلق عليها اسم فيروز، واليوم تقف فيروز بقامتها التي لا تخطئها القلوب في لبنان الحرائق، لتكون قلعةً تتوحد حولها نفوس اللبنانيين.
يستهل الأديب السوري “خطيب بدلة” كتابه بإقرار جميل (من حق فيروز علينا نحن الأدباء، أن يكتب كل منا عنها كتاباً بطريقته وأسلوبه.. وهذا كتابي )
وهو واحدٌ من ملايين الذين افتتنوا بالصوت الفيروزي، وبضجيج الحكايات التي صحبت تلك الأغنيات، في ولادتها وتألقها، وصبغها للصباحات على مدى عقود، فلا تكاد تصبِّحك روائح القهوة، إلّا وهي تتهادى على موجات الصوت الفيروزي.
في كتابه الغني والطريف معاً، يؤرخ “خطيب بدلة” لتلك المسيرة الرحبانية التي صاحبت صعود القومية العربية، وعنفوان القضية الفلسطينية، وجراحات الحرب الأهلية اللبنانية، واكتظاظ شوارع بيروت بكل مثقفٍ، ومناضل عربي هارب من عسف بلاده، بكل وردة حملت رسائل عشق وندى، بتلك الأمسيات التي يحلو فيها الطرب والسمر والسهر.
في التسعينات كانت هناك بضع برامج إذاعية، تقدم لنا شرحاً وتعريفاً جميلا لأعمال موسيقية كلاسيكية و عربية، أذكر من أهمها برنامج “كلاسيك” “لإسحق أبو العز” و برنامج “غواص في بحر النغم” للموسيقار “عمار الشريعي”، هذه المعرفة تغيّر طريقة تذوقنا وفهمنا لهذا العمل الموسيقي أو تلك الأغنية بشكل حاسم، وتوسِّع من مساحات التمتع بها، في كتابنا الذي نتناوله اليوم “السيرة الرحبانية الفيروزية” فعلٌ يضارع أو يضاهي تلك البرامج القديمة، فهو يفصِّل في نشوء وتطور المدرسة الرحبانية، ويلقي بالضوء على تفاصيل، بعضها معلومٌ، وكثيرٌ منها غائب عن معظمنا، في الحديث عن تلك التفاصيل، تتكسر جرار الأسرار وتشيع عطراً معتقاً من هذا الجنى، الذي لم يترك حجرةً في حياتنا، إلّا وتسلسل إلى زواياها.
سبق لخطيب بدلة أن كتب عام “2009” برنامجاً إذاعياً اسمه “أنا وفيروز والزمن الطويل” قدمته الفنانة منى واصف، يتحدث فيه عن أغاني فيروز، وقبل هذا وبعده ساقه شغفه العميق بفيروز والمدرسة الرحبانية، للتتبع والاهتمام الذي راكم لديه إلماماً موسوعياً، كانت حصيلته هذا الكتاب، الذي يصح القول فيه: إنه تأريخ موجز للسيرة الرحبانية.
لا يحيلك خطيب بدلة في كتابه إلى هوامش، تشتت القارئ وتقطع سيولة الحديث، إنما يجعلها نقاطاً منفردة في المتن، يتوسع فيما يجب الوقوف عنده خلال السرد أو التحليل.
وهو من خلال تطوافه الواسع في أعمال الرحابنة، لا ينسى أن يتعرَّض بشكل وافٍ لمن غنوا ولحنوا وكتبوا الشعر والأغنية في بدايات تلك الفترة، التي اشتهرت فيها الأغنية الرحبانية.
في دمشق عام “1952” سجَّلت فيروز أغنيتها الاحترافية الأولى “غيرة” للأخوين رحباني، وكأنها إشارة لما سيكون في مقبل الأيام، حيث ستكون بلاد الشام الملعب الأساسي للتجربة الغنائية الرحبانية، كما سيكون لإذاعة “الشرق الأدنى” التي كانت تبث من القدس قبل عام “1956” دور مهم في احتضان التجربة الرحبانية.
يتناول الكتاب عدداً كبيراً من اعمال الرحابنة بالدرس والتحليل، ونقل ما قاله النقاد، وتصويب بعض الروايات الشائعة، والتي كانت كثيراً ما تنسب كلمات بعض الأغنيات لغير أصحابها، فعلى سبيل المثال، قصيدة لملمت ذكر لقاء الأمس بالهدب والتي نُسبت خطأً “لعلي بدر الدين” والحق أنها من تأليف “منصور الرحباني”، ومن لطائف ما يرد على لسان ،منصور الرحباني” في أمر هذه القصيدة الرقيقة، أنه عقب انتهاء عرض أحد المهرجانات الرحبانية الفيروزية، في “معرض دمشق الدولي”، تقدم الشاعر الكبير “عمر أبو ريشة” ليسلم على عاصي الرحباني ومنصور، فبادرهما مباركاً (خذا شعري كلَّه، وأعطياني قصيدة “لقاء الأمس” وخاصة البيت القائل، “نسيت من يده أن أستردَّ يدي… طال السَّلام وطالت رفَّة الهدب”)
وقد غرف الرحابنة من معين الأغنية العربية، وجعلوها بثوبٍ قشيبٍ في قالبهم الجديد، فغنوا للموسيقار سيد درويش “زوروني كل سنة مرة” بعد أن أعملوا ريشتهم الرحبانية في كلماتها، كذلك أغنية “أهو ده اللي صار”.
كما غنت فيروز عام “1960” لأبي خليل القباني أغنية “يا طيرة طيري يا حمامة” وأغنية “يا غصن نقى مكللاً بالذهب”، وغنت للموسيقار المصري “داوود حسني” أغنيته الشهيرة “البنت الشلبية” التي غنتها في عشرينات القرن المنصرم السلطانة “منيرة المهدية”.
ربما يكون من أهم الفصول، الفصل الذي يعرض فيه الكتاب للمرأة الرحبانية، أو المرأة كما تناولتها الأغنية الرحبانية، فهي في “سهرة حب” تقف نداً للرجل، وفي “سكتش المصالحة” هي المرأة التي تقول الحكي “بصوت عالٍ” لجمع الرجال وتحسم الأمر.
خلاصة القول: إنَّ للمرأة في الأغنية الفيروزية، رتبة سامية، لا تقلُّ عن رتبة الرجل، بل وتضاهيه أحياناً.
الكتاب ليس عملاً بحثياً، فصاحبه يؤكد في البدايات، أنه يتناول موضوعاً فنياً من زاويةٍ أدبية، وكتاب السيرة الرحبانية، إضافةٌ مميزةٌ لتأريخ هذه الظاهرة الفنية التي لا تشيخ، وإضاءةٌ مهمةٌ تحمل تقديراً ووفاءً، لمدرسةٍ غنائية، سيمضي زمنٌ طويل قبل أن ينالها مبضع النسيان، وقبل أن يغمرها هذا الضجيج الطاغي.
الكتاب صادر عن دار موزاييك للدراسات والنشر عام 2020 – المؤلف: الأديب خطيب بدلة – يقع الكتاب في 278 صفحة