علاء الدين عبد المولى ـ الناس نيوز ::
كان ذلك الصيف الشعري علامةً من العلامات الفارقة في علاقة (الشاعر) بأجهزة الأمن في مدينة حمص؛ فقد حدث ما يمكن وصفه بأنه خارج المألوف والاعتيادي كلياً.
ففي مهرجان رابطة الخريجين الجامعيين للشعر، وقفتُ كالعادة أقرأ قصيدتي التي أختارُها سنوياً لتكون أفضل ما أقدّمه من تجربتي الشعرية. وقد تزامن ذلك مع أقاويل، بأن بعض أعضاء إدارة الرابطة يعترضون على مشاركتي؛ لأنني كل مهرجان أسبّبُ لهم مشاكل وإحراجات مع أجهزة الأمن.
كما تزامن ذلك مع كون المهرجان هو الأول بعد وفاة حافظ الأسد (الرئيس السوري)، ودفنه في الضريح في قريته القرداحة (في محافظة اللاذقية الساحلية)، مع تدفّق وفود الزائرين من المؤسسات والجهات العامة والشركات الخاصّة، وكل فعاليات القطر من كل نوعٍ وصنفٍ، حيث يجب أن يؤدّوا الزيارة للضريح، ويسجّلوا مواقفهم “الوطنية”، ويُعلنوا الولاء.
وأبشع ما كان في زيارات الوفود تلك القصائد الرديئة التي تُقرأ حول الضريح، حيث يُنتهك فيها الشعر لصالح النفاق والمديح والرثاء لصاحب الضريح حافظ الأسد، وإعلان البيعة لابنه المخبول. وقد كان من الطبيعي بالنسبة لأي أديب معارض لأنظمة ديكتاتورية أن يتّخذ موقفاً مناهضاً، ورافضاً، ومُديناً لكل قصائد المديح الرخيصة التي ينشدها شعراء المديح السلطانيّ.
من هنا، كان أن اخترتُ قصيدةً لأقرأها في ذلك المهرجان الشعري؛ فيها مقطع يُدين إدانةً واضحة شعراء (الضريح) الذين يحوّلون الشعر إلى طبلٍ من التمجيد للنظام.
قصيدتي كانت طويلةً كالعادة في مثل هذه المناسبات، وبعد حوالي ربع ساعة من الإلقاء، وصلت إلى المقطع التالي: ـ لماذا خرجتَ على النصّ؟ قال ليَ القلبُ، وانساب في الحبرِ أعمقَ ممّا أشاءْ
قال: خُذني إلى الزهرِ والنهرِ
طِفْ بيَ حول قباب النساءْ
أَغلقِ البابَ عن طبلهم
واكتشف خلفَ هذا التلوّث جوهرةً للصفاءْ
قلتُ: لا بأس يا سيدي أن ننوّع في الاحتفالِ:
هنا شاعرٌ للضريحِ
هنا للمديحِ
ولكنّ وجهَ القبيح يحرّضني شاعراً للهجاءْ
وهنا، ما كان من المسؤول الثقافي وأحد مسؤولي تنظيم المهرجان إلا أن نبّهني للساعة بيده، وكان أمامي في الصفّ الأول، وكانت حركته مرفقةً بعبارةٍ فيها تنبيه إلى أن الوقت انتهى. وقد أساء التصرف بذلك، خاصّة، وأن المقطع المذكور كان ذروةً من ذرا الانفعال الشعري حتى في الإلقاء. وقد تلقيت إشارته على أنها انزعاج وضجر، بسبب ما قلتُه في ذلك المقطع من إدانة لشعراء الضريح والمديح. فكان ردّي عليه بصوت عالٍ وواضح لا لبس فيه، وقلت له أمام الجمهور الذي أدرك مغزى الموقف: سأكمل قصيدتي حتى النهاية، وهذه آخر سنة أشارك فيها بمهرجانكم.
عند هذه اللحظة ضجّت القاعة بتصفيق غير اعتياديّ، لأنه كما أشرتُ فهم الجمهور العبرة من مقاطعتي، وفهم موقفي واحتجاجي.
لا بدّ من الإشارة مجدداً بطبيعة الحال، أن في هذه الأنشطة الثقافية هناك حضور لكل فروع الأمن: الأمن السياسي وأمن الدولة والأمن العسكري، وربما المخابرات الجوية! حيث يأتي مندوبون من هذه الفروع؛ مندوبون بُسطاء في ثقافتهم شبه أميين! يريدون كتابة تقارير حول أي نشاط، وما يرافقه من ملاحظات يرونها ويرفعونها إلى مكاتب رؤسائهم. وكان ما حصل معي مادة دسمة لذلك. خاصّةً، وأنه بعد انتهاء الأمسية تلك التفّ حولي قسم كبير من الحضور، وصاروا يرشقون عليّ بعض الياسمين الذي قطفوه من المكان نفسه الذي يُقام فيه المهرجان.
وأعطاني بعض الشباب قصاصات ورقية قرأتها حين خرجت من المكان، وكان فيها عبارات التأييد والدعم والامتنان لموقفي الشجاع وصراحتي في قصيدتي… الخ
لا يمكن لمثل هذا اليوم أن يمرّ دون أن يستوقف فروع الأمن، وقد اُختير فرع الأمن السياسي مرّة أخرى ليستدعيني للقاء مسؤول فيه بعد أيام. في الواقع لا يمكن لنا أن نحدّد وظيفة كل مسؤول أمني يستدعينا. فلا رُتب واضحة، ولا أسماء مكتوبة على الطاولات إلا ما ندر. لذلك فنحن أمام شخص غامضٍ في هويته ومكانته.
ذهبتُ للموعد المحدّد من قبل فرع الأمن، استقبلني ذلك الشخص الغامض، بادرني بفكرة مُلتبسةٍ أربكتني للحظات حيث قال: (شو يا… قال حملوك عالأكتاف بالمهرجان وهتفوا لك؟)، لم أجد ما أقوله للحقيقة. فأنت هنا، لا تتوقّع ما سوف يفهمونه منك في حال قدّمت أي ردّ، لكنه أنقذني من تلقاء نفسه من الحرج الذي تعمّد أن يوقعني فيه، فقال مبتسماً ابتسامةً خبيثة: (عم امزح معك أكيد). أن يتّهمك مسؤول أمني بأنك رُفعت على الأكتاف، وهتف الناس لك، هذا مشهد خاصّ بقيادتهم الحكيمة، ولا يتجرّأ أحد على ادّعائه.
تابع قائلاً: الآن سنعطيك ثلاث صفحات بيضاء، وعليك أن تملأها بتفاصيلَ ما جرى لك في تلك الأمسية. ماذا كنتُ تقرأ، ومَنْ الذي قاطعك، وماذا ردّدت عليه، وماذا قال الناس بعد ذلك، ومَنْ صفّق لك! وماذا سلّمك بعض الشباب من قصاصات ورقية؟؟!
طبعاً، هذه الصفحات الثلاث يعرفها كل من يتمّ استدعاؤه من قِبل أجهزة الأمن في موقفٍ يشبه موقفي. يريدون من الشخص نفسه أن يكتب، وبخطّ يده اعترافاً بتفاصيلَ ما جرى في لحظة ما، هم يحقّقون في حيثياتها وملابساتها.
فاجأني أخيراً بالقول: الآن عليك أن تخرج إلى غرفة مجاورة، وهناك تأخذ راحتك في الكتابة؛ لأنه سوف يدخل عليّ الآن شخصٌ لا أريد أن يراك هنا!
أدركتُ على الفور أنه تم استدعاء أحد غيري للأسباب نفسها، ربما يكون أحد أعضاء إدارة رابطة الخريجين الجامعيين، وهي الجهة المنظّمة للمهرجان.
وربما يكون شخصاً من طرفهم يريدون التأكّد منه مما سأدوّنه في الأوراق البيضاء. وللحقيقة فلا يمكن أن أعرف مَنْ هو الشخص.
ملأتُ الأوراق الثلاث بتفاصيلَ ما جرى. ولكن كيف يمكن أن أعترفُ بأنني في المقطع الذي تمّتْ مقاطعتي فيه؛ كان عبارة عن إدانة لشعراء المديح والضريح؟! وكالعادة لا بدّ أن ألفّ، وأدور حول النقطة، وأصوغ عباراتٍ عموميةً لا يمكن من خلالها تسجيل إدانة أمنية مباشرة لي. (طبعاً باستثناء مَنْ صفق لي! وقد شرحت له شفهياً فيما بعد صعوبة ذلك واستحالته).
بعد ما يُقرب من أكثر من ساعةٍ وأنا أنتظر بعد الانتهاء من كتابتي للأوراق، جاء عنصرٌ، وقادني مرّة ثانيةً إلى المسؤول الأمني نفسه الذي كان وحده، وقد انصرف من عنده الشخص الآخر، قال لي اجلس، وصار يحدّثني محاولاً استعمال عبارات فيها استعراض ثقافيّ! لكنها عباراتٌ هزيلة حول الشعر، ووظيفته ودوره القوميّ! لم يطلْ الحديث، فأمرني بالانصراف قائلاً وهو يبتسم الابتسامة الخبيثة نفسها: (روح اقرأ واكتب بس حاج تعمل مشاكل. الملاحظات حولك كترت).