محمد برو – الناس نيوز :
هذا ما يقوله الأتراك في أمثالهم القديمة عن الشاي، مشروبهم الوطني المفضل، وهو “جليس الوحيدين”، ويقولون أيضاً ” المطر يحضر البَركة والشاي يحضر الأمل”.
للشاي في تركيا موقع الصدارة بين سائر المشروبات، عند سائر طبقات المجتمع، ويتعداها تالياً لمن يفدون إليها كسائحين، أو زائرين أو مقيمين، بما يمكننا أن ندعوه “عدوى الشاي التركي” فما إن يستقر الزائر أياماً في إسطنبول أو عنتاب، أو غيرهما من المدن التركية، حتى يلاحظ تدفق عشرات أكواب الشاي التركي المخمر بالطريقة التركية المميزة، والتي لا تشبهها أي طريقة أخرى.
بعد أربعة أشهر من مكوثه في إسطنبول، يعترف لي صديقي وائل، أنه شرب من الشاي في هذه الأشهر الأربعة، مقدار ما شرب في عشر سنوات خلون.
وتقديم الشاي هو التعبير الأبسط والأكثر مباشرةً ويسراً، عن الكرم والحفاوة بالضيف أو الزبون وحتى بالعابرين، وإذا كان للإنجليز أعراف وعادات صارمة في قواعد ومواعيد شرب الشاي، فإن القاعدة الأشد صرامة لدى الأتراك، أنه مشروب يقدم منذ شروق الشمس حتى شروقها في اليوم التالي، ولكنه على مائدة الإفطار يكاد يشكل عمود الخيمة، التي لا ترتفع بدونه، وإنك إن قدمت لتركي فطورا خالياً من كأس شاي فكأنك قدمت له جسداً بلا روح.
منذ سنوات قريبة انتشر فيديو تركي على منصات التواصل الاجتماعي، يصور أسرةً تدخل أحد المطاعم، حيث يشرح صاحب المطعم أنه يستطيع تقديم كل ما يشتهون باستثناء الشاي فهو غير متوفر، لتلمح على إثرها وجوه أفراد العائلة التركية وقد علت الدهشة محياهم وهم بين مصدق ومكذب، وتنثال عبارات الاستنكار والاستهجان من أفواههم، هل يعقل لمطعم أو مقهى ألا يقدم الشاي!! ماذا يفعل إذاً ومن سيقبل من الأتراك أن يكون زبوناً لهذا المحل الفقير، كونه لا يقدم الشاي.
ما إن تعبر في الأزقة الضيقة في المدن القديمة، حتى تدهمك رائحة الشاي التركي، وستجد الشباب والرجال وهم يروحون ويجيئون سراعاً، وبيمناهم الصينية التي امتلأت بعشرين كأسا من الشاي، وهم يحملونها ويسيرون بها برشاقة بارعة، بواسطة مشبكٍ معدني يربط أقطارها الخارجية، على شكل مثلث متساوي الأضلع، وقد غطيت الكؤوس بطبقٍ صغيرٍ جداً يحوي مكعبي السكر، وما إن يشير أحدهم طالباً حتى يميل حامل الشاي ذلك الطبق بحركة خاطفة فتنزلق مكعبات السكر داخل كأس الشاي الساخن، إيذانا بتقديمه لمشتهيه.
وللشاي في كثيرٍ من التفاصيل الحياتية اليومية أعراف وقوانين يعرفها أصحابها، ففي بعض الخانات المتخصصة بتجارة الذهب والمجوهرات الثمينة على سبيل المثال، يتم تحديد الإيجار السنوي بحصةٍ محددةٍ من الذهب، قد تصل في بعض المحلات إلى عشرة كيلو غرامات من الذهب سنوياً، لكن إلى جانب هذا الإيجار المرتفع هناك شرط آخر، ألا يكون هناك تحضير كأس شايٍ واحدٍ في تلك المحلات، إنما يتم شراؤها يومياً وبشكل حصري من محلٍ متخصصٍ بالخان تكون ملكيته وعائداته لصاحب الخان، ويتم بيع حصة شهرية “مئتي قطعة أو أكثر” من القطع البلاستيكية، تشبه القطع النقدية المعدنية، يتم بموجبها الدفع اليومي لقاء عشرات كؤوس الشاي، التي يطلبها صاحب كل محلٍ لضيوفه وموظفيه.
ووفق العديد من الإحصائيات، فإن تركيا وللعديد من السنوات تتصدر المرتبة الأولى في العالم، من حيث نصيب الفرد السنوي من استهلاك الشاي، والذي يقدر وفقًا لتقرير أصدرته اللجنة الدولية للشاي، ب 12 كيلو غراما ونيف سنوياً، تليها روسيا باستهلاك قدره أربعة كيلوغرامات وربع وتليهما موريتانيا وإيران باستهلاك يقارب ثلاثة كيلوغرامات وربع تقريبا.
منذ سنواتٍ قليلة تم إنشاء أول معرض وسوق للشاي في مدينة ريزة، التي تقع في الشمال الشرقي قرب مدينة طرابزون، على مساحة 9.5 آلاف متر مربع، وشيد نصبٌ ضخمٌ لكأس شاي وسط المدينة، ومن المعلوم أن الشاي يتدرج بلونه الأسود الشديد السواد نزولا إلى اللون الفاتح الذي يقترب من اللون الفضي، بحسب ارتفاع موقع زراعته عن سطح البحر، وكلما كان الموقع أقرب إلى ارتفاع سطح البحر، كلما ازداد لونه سوادا ويخف تدريجيا ويرتفع ثمنه مع الارتفاع حتى مستوى 4000 متر عن سطح البحر، حيث يمكن أن تصل قيمة كيلو غرام واحد إلى ألف دولار.
وفي الستينات من القرن المنصرم، حيث كان السوريون يكثرون الترداد إلى المدن التركية، وفي مقدمتها عنتاب وإسطنبول، كانت الهدية الأنفس التي يحملها الزائرون كيساً جميل مملوءاً بالشاي الخشن، بسبب غلاء ثمنه وندرته يومها.
ويحضِّر الأتراك الشاي بطريقة اشتهروا بها وربما شابهت ذات الطريقة التي اشتهرت بها بعض مدن وأرياف أعالي القفقاس، حيث تتم باستخدام إبريقين مخصصين للشاي، يتم وضع الماء المغلي في الإبريق السفلي “الأكبر حجما”، وفي الإبريق العلوي “الأصغر حجما” يتم نقع مقدار وافر من الشاي في ماء ساخن، ويترك مدة عشرين دقيقة ريثما يختمر ويشتد سواد لونه، فيما يتم تقديمه بوضع كمية من الشاي المخمر في كوب زجاجي، ويوازن به مقدار من الماء الساخن لبلوغ درجة الكثافة التي يفضلها الضيف.
وإن حصل وزرت مضيفاً تركياً، فإنه لن يتوقف عن تكرار تقديم كؤوس الشاي، وإعادة ملئها لك، دون طلب الإذن منك، ما لم تضع الملعقة الصغيرة على فوهة الكوب، إيذاناً منك أنك اكتفيت من هذا الشراب.