[jnews_post_author ]
ودع العرب الإمام الصادق المهدي الرمز السوداني الإسلامي الكبير وأعلنت الحكومة بشقيها المدني والعسكري الحداد الوطني لمدة ثلاثة أيام، وعلى الرغم من ظروف كورونا فإن الخرطوم شهدت تجمعاً مليونياً مستحيلاً في 2020 في رسالة واضحة عن مكانة الرجل وتاريخه ورسالته.
لا أكتب هنا في النضال السياسي للإمام، فهو تاريخ كامل، وبحسبك من رجل ظل خمسين عاماً مرشحاً دائما لمنصب الرئاسة وقد تولاها منذ كان في الحادية والثلاثين وظلت تراوده عن نفسها حتى الخامسة والثمانين، ولكن أهم خصلتين فيه أنه كان رمز الديمقراطية الدائم، تعرفه منابر السودان وسجونها ومنافيها، وأنه رجل السلم الذي يقود أكبر تجمع شعبي مليوني في السودان منذ ستين عاماً، في بلد أنهكته الحرب والدماء والتقسيم والطائفية ولكنه لم يتورط في قطرة دم واحدة.
ولكن ما أود الكتابة فيه هو الموقف الفكري للأستاذ الإمام فقد يكون الصادق المهدي أكثر كاتب عربي ترك تراثاً مكتوباً، وفي الموقع الرسمي للإمام ستجد أنه ترك 915 عملاً مطبوعاً، منها نحو 70 كتاباً مستقلاً، فيما تتوزع الإصدارات الأخرى بين أوراق لمؤتمرات أو مقالات أو مشاركات في أعمال علمية وفكرية.
ويعنيني هنا أن أشير إلى عمل بالغ الأهمية قدمه الإمام الصادق وهو كتابه العقوبات الشرعية وموقعها من النظام الإسلامي، وقد كتبه في سجن كوبر 1983 بعد إعلان النميري تطبيق الأحكام الشرعية، وكرس فكرة الكتاب حول قدرة الفقه الإسلامي على التطور وابتكار الحلول والأحكام، وتطور الأحكام بتطور الأزمان، وأكثر ما أدهشني فيه وجوب منع الاستبداد من فجور السياسة بتطبيق العقوبات الشرعية في مجتمع لم يحصل الناس فيه أولاً على الخبز والحرية والكرامة والعيش الكريم.
وأكثر ما أدهشني فيه موقفه الرائع وتحليله الرائع للمدارس الفكرية السائدة في الغرب وقد لخصها في أربعة اتجاهات:
- مقولة الناسوتية التي بالغت في تقدير الإنسان حتى جعلته محور كونه بلا شريك .
- مقولة العلمانية التي بالغت في إنكار الغيب إنكارا مطلقا وحصرت القيمة كلها في هذا العالم المشاهد في الزمان والمكان.
- مقولة المادية الجدلية التي بالغت في أهمية المادة بحيث جعلت دوافع الإنسان، وحركة المجتمع، وحركة التاريخ، أصداء لمعطيات مادية.
- مقولة فرويد في علم النفس التي بالغت في قيمة الدافع الجنسي وجعلته الدافع الأساسي في تكوين الإنسان وجعلت كل ما سواه ظلاً له .
ولكنه أكد بوضوح أنه يرتبط بهذه المقولات ثلاثة أخطاء مستمرة: الأولى أنها مقدسة لا تناقش، والثانية أنها مدنسة لا يصح احترامها، والثالثة أنها انتصار العلم على الدين.
لقد أكد السيد الصادق المهدي أن هذه النظريات ليست حرباً على الدين ولا هي تآمر عليه، وأن من السخف أن نتصور ان أصحابها محض شريرين أرادوا الانتقام من الإسلام، بل حلل مواقفهم بموضوعية وعلم، وأكد أنهم يستندون إلى جانب من الحقيقة المحترمة، ولكنهم يبالغون من الأفق الذي انصرفوا إليه.
إن الصراع الهائل بين العلم والإيمان معركة وهم، وطواحين هواء، وأن بإمكاننا على الدوام فهم بواعث الفلاسفة الإنسانية والعلمية حتى نلتقي معهم في نصف الطريق بدل أن نشن الحروب الوهمية الفارغة ضد الحضارة.
أما كتابه النبيل الرائع العلامة إقبال وهو يشكل منهجه الفكري فسأكتب عنه دراسة مستقلة سيما وأنه أشار في مقدمته أن ما اختاره من فكر إقبال من نثر وشعر هو من إعداد الصديق محمد حبش، وكنت قد رفعت له كتابي إقبال فيلسوف التجديد الإسلامي قبل أن ينشر، وفيه أشد ما كتبته من الشعر جرأة وصراحة. (رابط الكتاب)
إنني مدين للمهندس مروان فاعوري مؤسس المنتدى العالمي للوسطية الذي عرفنا بالإمام الصادق، حيث اخترناه رئيساً للمنتدى، وعشنا في كنفه أطيب الأيام وأعذبها معلماً وصديقاً وإماماً، وأسعدنا بصحبته في الأردن والسودان وباكستان والجزائر والمغرب ومصر وكوريا والمالديف وسوريا الحبيبة.
لقد استطاع الرجل الذي تخرج من كلية القديس يوحنا بجامعة أكسفورد أن يقود الجماهير المليونية في الريف والحاضر السوداني التي آمنت بجده محمد أحمد المهدي في السودان كمهدي منتظر بشر به رسول الله، وظهرت عليه العجائب والكرامات، وحملت الإيمان نفسه إلى أسرته وعائلته من بعده، استطاع أن يقود هذه الملايين من الصوفية والدراويش وأن يحدثها عن الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان، ولا أتردد أبداً في وصفه بأنه قائد أنجح ربيع عربي، عبر موقفه الطويل ضد الاستبداد وسنواته التي سلخها بين السجون والمنافي وهو ينادي بالحرية، وأخيراً قيادته لنداء السودان منذ 2018 الذي أدى إلى سقوط الاستبداد، دون قطرة دم، وبالتالي الانتقال إلى بلد متصالح مع العالم، يبشر بالخير الواعد، وبالتالي أعلنته القوى السياسية في السودان قديساً وطنياً تنكس لموته الأعلام ويعلن الحداد الوطني على مستوى الوطن وهو إجراء لا يعرفه العرب إلا لحكامهم الذين يموتون وهم على رأس السلطة.
————————————
الشيخ الدكتور محمد حبش