محمد برو – الناس نيوز ::
يمضي معظمنا حياته وساعاته اليومية المتكررة، منساقاً وراء نمط محدد من الحياة، التي قلما تنزاح عن مسارها النمطي، ليكون بذلك نموذجاً للإنسان الموظف، الذي تحكمه ساعة الاستيقاظ اليومية، وبدء رحلته إلى العمل، وإمضاء الشطر الأكبر من يومه في وظيفته، ينفذ الواجبات ويتلقى الأوامر ويراقب ساعته بانتظام، ثم رحلة العودة إلى البيت لينال بعضاً من الراحة، ويقوم ببعض الواجبات المنزلية المبتسرة، والتي تخلوا في كثير من الأحيان من طعم الحياة، وينتهي يومه بالنوم القسري تحت وطأة الإجهاد تحضيراً ليوم جديد يشبه سابقه.
ربما تمضي حياة البعض وتنتهي على هذا المنوال، لكن بعضنا الأوفر حظاً تمنحهم الحياة صدمة تعيدهم إلى رشدهم أو تنير بصيرتهم، لما هو أهم وأغنى من هذه السرنمة “السير نائماً” التي تحكم حياته، كالنجاة من حادث موت محقق أو الشفاء من سرطان كاد يودي بصاحبه، أو النجاة من حكم إعدام مبرم لسبب بسيط لم يكن يخطر له ببال.
كثيرة هي المذكرات التي تذخر بالتجارب القاسية وربما القاتلة، التي نجا أصحابها بأعجوبة أو بضربة من ضربات القدر العزيزة، واكتشفوا خلال رحلة النجاة تلك، الخارطة التي يمكن تتبعها والنجاة عبرها لمصابين آخرين يمرون بذات التجربة أو ما يشابهها.
ربما يمكننا من خلال ملاحظة عشرات حالات النجاة والتعافي، أنهما لا يحصلان بجهد خالص من المرء وحده، فالبيئة المحيطة بما تحويه من أشخاص معززين ومؤازرين “أصدقاء. أقرباء. جيران.” يشكلون عاملاً من أقوى عوامل الصمود والمقاومة والتمسك بالحياة.
في كتابها الفريد “الجلطة التي أنارت بصيرتي” تسرد لنا العالمة الأمريكية المتخصصة بتشريح الدماغ جيل بولت تايلور تجربتها الشخصية بالنجاة من الجلطة الدماغية، التي كادت تودي بحياتها أو بمعظم قدراتها العقلية، وكيف قاومت ذلك، عن العوامل الذاتية والموضوعية التي ساهمت في نجاتها عبر سنوات من الألم والمعاناة.
لا يمكن للناجي أن يعود كما كان قبل تجربة الأزمة، جسدية كانت أو نفسية أو تجربة اعتقال أو أسر، كثيرون ممن نجو يبقون منكسرين ويبقى في ذواتهم شيء لا يمكن له أن يندمل، وهذا شأن الغالبية، لكن نسبة من الناجين المحظوظين يعودون أقوى وأصلب مما كانوا عليه من قبل، وتتبدل حياتهم بشكل جذري، فقد خبروا هذا البرزخ الخاص من الخطر، ووقفوا عند الحد الفاصل بين الحياة والموت، وتبدت لهم قيم الحياة ومعانيها معراة عن القشور والأقنعة، وهم على وشك مغادرتها، هذه الرؤية والملامسة القريبة لا يمكن لها أن تتأتى إلا لمن خاض هذه التجربة الفريدة وبشكل شخصي، ربما يشبه هذا في شكل من أشكاله ما يتاح لرائد الفضاء حين ينظر إلى كوكب الأرض وهو في مركبته الفضائية بعيداً عن عالمه الأرضي، فيرى فيه ما لا يستطيع الناظر في الكوكب رؤيته، تكتب جيل تايلور خلال رحلة التعافي (حاليا أنا أعيش في عالم الما بين، لم تنطفئ حياتي بعد، لكنني لم أعد أنتمي للآخرين حولي، إنني كيان غريب في عين أولئك المحيطين بي، وفي إعماقي أطفو غريبة عن ذاتي أيضاً) لقد عاشت تجربتها القاسية وهي على ضفاف الموت وسلكت رحلة التعافي خلال سنوات وهي فاقدة للنطق وللقدرة على التفكير المنطقي والقدرة على المحاكمة الرياضية، ثم استعادتها جميعاً تدريجياً، أذكر تجربة العمى الطوعي التي عاشها بعض من أعرف مدة أسبوع كامل وهم معصوبي الأعين، كان لتلك التجربة على بساطتها وخلوها من الأزمة النفسية العميقة التي يعيشها من فقد بصره حقيقة، بالغ الأثر على نظرتهم للحياة وهم ينظرون إلى العالم بعيون سليمة مرة أخرى.
بالطبع لا يمكن مقارنة صدمة المرض العضال بصدمة الاعتقال التي تزلزل روح الانسان ونفسه، وتعرضه لأقسى أنواع العذاب الجسدي والنفسي، مضافاً إليها ذلك القدر الهائل من الإذلال والمهانة الشخصية، حيث لا يجد هناك نصيراً أو مساعداً غير أولئك التعساء الذين يتشاركون معه هذه المعاناة، ففي تجربة المرض يكافح الإنسان بكل طاقته ويبذل كل ما يملك في مسيرة التعافي، للحفاظ على مزيد من الدقائق في هذه الحياة، كما يحف به العديد من المؤازرين من أهل وأصدقاء وأطباء، بينما في تجربة الاعتقال القاسية ربما يكون الأمل الأكبر محصوراً في دنو الموت أو تمنيه.
تبقى الصدمة التي تمتد لزمن كافٍ فرصة للولوج إلى عالم السلام الداخلي، ذلك بالاعتماد على الطاقة الكبيرة من القدرة على التكيف والحاجة إلى خلق فضاء ذاتي يعزز المقاومة وحب البقاء ويمنح للحياة معنى بشكل من الأشكال، وهذا بالضبط ما يفعله الناجحون من ذوي الاحتياجات الخاصة الذين فرضت عليهم الحياة نمطاً مختلفاً من أنماط الحياة، التي قد تبدو ناقصة بالقياس إلى الحالات السائدة، لكنها في كثير من الأحيان تمنح صاحبها طاقة خلاقة متميزة من خلال استنفار باقي طاقاته الكامنة والتي تصنع منه جباراً، كما قالت العرب “كل ذي عاهة جبار”.