د . ممدوح حمادة – الناس نيوز ::
بعد أن مر اكثر من عشر سنوات على عمله في قسم الرقابة في وزارة الإعلام كان شوقي قد تآلف مع وضعه كرقيب، ونسي حلمه الذي انتسب لأجله إلى كلية الصحافة كمراسل حربي يعتمر خوذة زرقاء كتب عليها (PRESS) وسترة زرقاء واقية من الرصاص كتب عليها نفس الكلمة، وكلما حدث انفجار ينحني بشكل آلي وينظر إلى الخلف حيث مصدر الصوت، وأمه تشاهد ويتلوى قلبها وحبيبته تضم راحتيها أمام صدرها وتعض على شفتها السفلى لشدة التوتر، وإلى آخره مما يلفت أنظار الجمهور إلى عمل الصحفي ويجعله مشهوراً، نسي شوقي ذلك، وأصبح يبتسم كاشفاً عن سنه الأمامي المكسور الذي يفضل كشفه للحضور على معاناته عند طبيب الأسنان، ويَعتبِر ذلك ضرباً من الطفولية كلما تذكر هذا الموضوع وبدلاً من تلك الثياب الزرقاء التي كانت تراود أحلامه عندما كان طالبا في كلية الصحافة، اعتاد على بدلة سفاري خاكية اللون يبدلها أحيانا بسفاري رمادية اللون، واعتاد على روتين العمل في الدائرة حيث يقرأ الصحف والمجلات المناطة به، ويذيلها بتوقيعه بعد إحدى عبارتين (يسمح بتداولها) أو ( تمنع من التداول)، ويمكن القول إن شوقي لم يعد يعتبر نفسه صحفياً وإنما رقيباً وهي المهنة التي كان يكرهها أكثر من كل شيء عندما كان طالباً في كلية الصحافة، بل كان يحتقرها ويحتقر نفسه عندما تم تعيينه في دائرة الرقابة في وزارة الإعلام، وأصبح بالفعل أشبه برجل آلي عنده برنامج ينفذه كل يوم، ولم يكن يمارس الرقابة في أوقات دوامه الرسمي فقط بل كان يفعل ذلك وهو يقرأ الكتب والمنشورات الأخرى فقد كان كثيراً ما يستل قلمه من جيب السفاري ويضع خطاً تحت جملة ما يعتقد أن عليها محاذيراً رقابية، ولم تكن نشرات الأخبار والبرامج الوثائقية والمسلسلات استثناء من ذلك، وفي حين كان يقدر دقة وحرفية الزملاء في رقابة النصوص التلفزيونية فإنه كان يتهم (البهائم) في رقابة التداول بالغباء لأنهم يمررون أموراً كثيرة يفترض عدم التغاضي عنها، ولا ينتبهون لما بين السطور، لكن بعد حادثة اليوم يبدو أن ذلك كان يتهيأ لنا وأن أحلام شوقي الطفولية الوردية حول صحافيته لم تندثر وإنما انسحبت مثل جمر إلى تحت الرماد فقد كان الهدوء يخيم على المكتب وكل موظف من الموظفين الستة كان غارقاً في المطبوعة المسؤول عنها عندما انفجر شوقي صارخاً:
- هذا ليس عدلاً.. ليس عدلاً على الاطلاق.
وكاد يمزق الجريدة التي بين يديه، نظر الجميع إليه وتساءل سعيد:
- عما تتحدث؟
- رضوان نمور، حصل على جائزة الإبداع السنوية التي تمنحها الوزارة.
قال شوقي موضحاً سبب انفعاله ثم تابع:
- ولو أنه يكتب مادحاً إياهم لربما تفهمت الأمر وقلت يمنحونه كل هذه الجوائز من باب التشجيع، ولكنه يهاجمهم في مقالاته تقريباً.
- لكي يتقون شره.
قال منير مبرراً:
- يتقون شره بهذه الطريقة؟ أليست لديهم سجون يتقون شر من هم مثله فيها؟ الذي يريد أن يتقي شر الآخر يسكته بدلا من منحه جائزة على هرائه.
- رضوان نمور يكتب مقالات عميقة وليست هراء، من الواضح أن لديك مشكلة شخصية معه.
قال منير فرد شوقي:
- نعم فأنا أكثر شخص يعرف هذا المنافق، لقد كان أسوا طالب في صفنا أثناء الدراسة، هل تعرف أنني سبب نصف نجاحه؟
- كيف؟
- كان يجلس خلفي في الامتحانات وينقل الإجابات على معظم الأسئلة من ورقتي، وإذا سألتموني عن سبب نصف نجاحه الثاني فسأقول لكم إنها القصاصات التي كان يدخلها معه إلى الامتحان، رضوان نمور لم يكن يعرف شيئاً.
- ولكنه موهوب.
جاء صوت فريد القابع خلف مكتبه في الزاوية فرد شوقي:
- موهوب؟ عن أية موهبة تتحدث؟ أي حمار يستطيع شتم الدولة هل تسمي هذه موهبة؟ إن الأمر لا يتطلب أكثر من بعض الوقاحة.
- ولماذا لا تسميها جرأة؟
- هههههه – قهقه شوقي وتابع- جرأة؟ تقصى أمره جيداً وستجد خلفه فرعاً يدعمه، يا حبيبي في هذا البلد لا أحد يجرؤ على فتح فمه دون أن يكون قد اخذ الضوء الأخضر من فرع ما.
ذكر الفرع برد قليلاً من راس شوقي التي كانت متقدة حقداً على رضوان نمور، وقصر الحديث قائلاً وهو يكتب على المكان المخصص:
- يمنع من التداول.
- لماذا؟ – تساءل سعيد ثم تابع – إنه مجرد خبر عن منح جائزة ما الممنوع فيه.
ابتسم شوقي ابتسامة صفراء وقال رداً على سعيد:
- كنت أعرف أنك ستوجه لي هذا السؤال.
ثم مد الجريدة إلى سعيد وقال له:
- انظر إلى الكلمات المتقاطعة على الصفحة العاشرة، سبعة عامودي.
نظر سعيد إلى المكان الذي أشار إليه شوقي فطلب منه هذا القراءة:
- اقرأ لنا ما هو مكتب في السبعة عامودي.
- دولة فيها حكم ديكتاتوري.
قرأ سعيد وانخفض مستوى حماسته بينما تابع شوقي متشفياً:
- من كم حرف يتألف اسم هذه الدولة؟
- من خمسة أحرف – قال سعيد وتابع محاولاً التبرير- ولكن الكثير من الدول تتألف منة خمسة حروف وفيها حكم ديكتاتوري.
- لا ترش على الموت سكر يا عزيزي سعيد، لقد قمت بحل الكلمات المتقاطعة في رأسي قبل أن أبدا بتصفح المواد، الحروف الخمسة هي اسم بلدنا والذي كتب الكلمات المتقاطعة يقصد بلدنا بالذات، اللهم إلا إذا كانت هناك دولة أخرى في المحيط الهادي أو الأطلسي أو على المريخ تحمل نفس الاسم، هل يعرف أحدكم دولة بنفس الاسم؟
لم يرد أحد على تساؤل شوقي المتهكم واكتفى منير بالتساؤل:
- ولكن ما علاقة رضوان نمور بالكلمات المتقاطعة؟
- لا علاقة لرضوان شخصياً بموضوع الكلمات المتقاطعة، ولكن من سوء حظه أن خبر منحه الجائزة يقع على الصفحة التاسعة أي على قفا الكلمات المتقاطعة، لا يمكنني فعل شيء مع الأسف هههه شاءت المصادفات.
- لا أرى مبرراً لكل هذه الكراهية الرجل كاتب معترف به وله جمهور عريض ومن الطبيعي أن يحصل على جائرة، لو كان في بلدان أخرى لحصل على أكثر من ذلك بكثير.
قالت صفاء التي تفضل عادة الصمت وعدم زج نفسها في مثل هذه الحوارات البيزنطية التي تخلو من أي جدوى، فشعر شوقي بداخله بأنه يبدو كشخص عصابي وأخذ يتراجع محاولاً تلميع صورته قليلاً:
- أنا لست ضد منح رضوان جائزة ولكنني ضد الظلم، فلماذا لا نمنح جوائز مثله، لماذا لا تحترمنا الحكومة كما تحترم رضوان نمور.
- وعلى ماذا تمنحك الحكومة الجوائز ما الذي فعلته لكي تمنحك جائزة.
تساءل منير فرد شوقي بثقة:
- بطل إنتاج مثلا، في كل يوم أقرأ عشرات الصفحات من الكلام الفارغ إكراما لها ألا أستحق لقب بطل إنتاج؟ لا بل بطل الجمهورية حتى.
- أفففف بطل الجمهورية؟ على أي مأثرة؟
تابع منير استفساراته فرد عليه شوقي بحماس:
- الكثير من المآثر، هل تعرف أنني سبب أساسي باستقرار الأمن في البلد وأنني أساهم بذلك أكثر من الشرطة نفسها.
التفت إليه الجميع مستغربين عما يتحدث فتابع موضحاً:
- يا سيدي هل تعلم أنني منعت أكثر من مئة وخمسين عدداً من مجلات تمارس التحريض على السلطة بشكل مباشر وغير مباشر، على شاكلة مجلة الناقد التي منعت ما لا يقل عن ثلاثين عدد منها.
- ما علاقة ذلك بالأمن؟
تساءلت صفاء فوضح شوقي:
- سأوضح لكِ، هذه المطبوعات تحرض على التفكير، لنفترض أنها وصلت إلى أيدي الناس وأثرت على ألف شخص فحولتهم من كائنات غبية لا تفكر في أي أمر إلى كائنات مفكرة وكل كائن من هذه الكائنات المفكرة جرّ خلفه عشرة حمير فحولهم إلى كائنات مفكرة أيضاً وتابع في هذه المتوالية إلى ما لا نهاية ماذا سيحدث؟
- ماذا؟
رد سعيد فأجابه شوقي بنبرة الفيلسوف هذه المرة:
- سنتحول في نهاية المطاف إلى شعب مفكر.
- رائع – قالت صفاء وتابعت- أين المشكلة في ذلك؟
- لا ليس رائعاً، رد شوقي بحزم وأردف، الشعب المفكر سيطالب على أقل تقدير برفع الرواتب ثم إجراء انتخابات نزيهة ثم حرية تعبير وأحزاب وصحافة وإلى ما هنالك مما يدور في تلافيف الدماغ المفكر، حتى يصل إلى المطالبة بتداول السلطة وتغيير الحكم هل تعرفين ما معنى هذا؟
- ما معناه؟
أجابت صفاء فتابع وهو يعد على أصابعه:
- مظاهرات، احتجاجات، كتابة على الجدران، اعتقالات، هل تعرفين ما معنى اعتقالات؟
- قل لنا.
ردت صفاء فتابع
- لنعتبر أن الدولة اعتقلت ألفاً تربي به بقية الآلاف فهذا يعني أن هناك ثلاثة ألاف وجبة في اليوم من ميزانية الدولة وإذا اعتبرنا أن نصف هؤلاء من الخبرات كالمهندسين والأطباء وغير ذلك فسنكون قد خسرناهم في غياهب السجون أيضاً، عدا عن السخط الشعبي الذي سيتسبب به اعتقال هؤلاء لأن الجمهور يعتبر من مثلهم شجعاناً والبعض ربما يعتبرهم أبطالاً، هل أدركتم الآن حجم الخدمات التي نقدمها؟
لم يقم أحد بالإجابة على السؤال وفضل الجميع قصر النقاش عند هذه النقطة، لأنه اقترب من الخطوط الحمر وتجاوزها قليلاً، ولكن شوقي عاد ليكسر الصمت:
- يا أخي ليس من الضروري أن يقدموا لنا جوائز من الكريستال الذي نقشت عليه أسماؤنا، قدموا لنا مرحى مثل أطفال الطلائع، أي شيء نشعر بعده أن الدولة تعاملنا كموظفين مخلصين لا ككلاب عندها.
قطع شوقي الصمت عدة مرات ولكنه لم يفلح في جرهم إلى الحديث.
في البيت تابع شوقي استنكاره لحصول رضوان نمور على الجائزة وختم حديثه مخاطباً زوجته بما يشبه النحيب:
- أنا اخترت الصحافة لأنها مهنة المتاعب أنا لم أدرس في كلية الصحافة لأمضي عمري في دائرة الرقابة، أنا كنت أحلم أن أسقط شهيدا في معركة من المعارك وأنا أنقل آخر الأخبار في بث حي ومباشر من ساحة المعركة، كل ذنبي أنني درست على حساب الدولة ويحق لهم تعييني في المكان الذي يريدون.
- الحمد لله لأنهم عينوك في الرقابة لكي لا نخسرك.
قالت زوجته رابعة بنبرة لا تخلو من التهكم فصرخ بها محتجاً:
- لا داعي للسخرية، بدون ذلك أنا أعصابي تالفة.
ثم نهض شوقي بشكل مفاجئ وفتح درجاً من أدراج طاولته أخرج منه دستة أوراق وضعها في الطابعة في عيني ربيعة نظرة صقر جاهز للقنص:
- سأعلمهم كيف تكتب المقالات.
- ماذا ستفعل؟
قالت زوجته بصوت يشي بالقلق فرد شوقي بصوت أشبه بصوت قاتل مهووس:
- سأقلب الدنيا على رؤوسهم يقولون إن رضوان نمور جريء؟ سأعلمهم ما هي الجرأة.
وانطلق شوقي يمحي ويكتب حتى أشرقت شمس صباح اليوم التالي وسيطر عليه التعب فاتصل بزملائه وأخبرهم انه متوعك قليلاً ولن يستطيع الحضور اليوم، وحاول النوم لكنه لم يجد إليه سبيلاً فهل ستقبل الأجهزة منه ذلك الأمر أم أنها ستعتبره ابناً عاقاً وتمزقه إربا على ما كتبه؟ لا بد أنهم سيعاملونه كمرتكب الخيانة العظمى فهو من صلبهم كما يقولون ولحم أكتافه من خيرهم، لكن ما كان يقلقه أكثر هو تخيله لمنظرهم وهم يقتحمون الحي مدججين بالأسلحة ثم وهم يجرونه مطمش العينين إلى مكان حتى الجن الأزرق لا يعرف أين يقع، وأخيرا تحول قلقه إلى رعب عندما أخذ يتذكر ما قرأه في رواية (القوقعة)، هل يستحق الأمر هذه المغامرة؟ لا يرمي بنفسه إلى التهلكة إلا الأحمق.
- ما بك؟
سألته رابعة وهي تضع طعام الفطور فرد عليها:
- أخشى أن تخرب لنا هذه المقالة بيتنا يا رابعة، أنا ما كنت لأخافهم أبدا ولكن أخشى عليكِ وعلى أمي فما الذي سيحل بكم إذا تم اعتقالي أو تمت تصفيتي.
- ههههههه، قهقهت رابعة وأردفت، ولماذا يصفونك؟
- اقرأي ما كتبت وستعرفين لماذا.
- إلى هذه الدرجة؟
قالت رابعة قلقة فأكد:
- لقد ذكرت كل شيء بالأدلة والأسماء، لا أعتقد أنهم سيغفرون لي.
- ضع اسما مستعاراً.
أشرق وجه شوقي عندما ذكرت رابعة ذلك وقفز باتجاه طبق الطعام ويمكن القول إنه اأى على مقلى البيض ناسياً أن له شركاء في المائدة ثم هرع إلى جهاز الكمبيوتر قبل أن يبتلع آخر لقمة من البيض المقلي وطلب منها:
- اختاري لي اسماً مستعاراً.
- وليد دربلي.
كتب الاسم بسرعة ثم توقف فجأة وكأنه تذكر شيئاً وسألها بانزعاج:
- الم تنسي اسمه بعد؟
هي الأخرى تضايقت ولم تعرف بما تجيب بينما تابع هو متسائلاً:
- هل يوجد تواصل بينكما؟
- أعوذ بالله، كيف يطيعك قلبك على توجيه مثل هذا السؤال لي؟
تصنع شوقي أنه غير مهتم بالموضوع وتابع تعديل الاسم ولكنه في داخله قرر مراقبتها رغم أنه يرجح عدم وجود تواصل بينها وبين وليد، مشروع خطيبها السابق ولكن خروج اسمه من اللاوعي أقلقه بعض الشيء، فهذا يعني أنه ما زال في قلبها ود له.
- سأسميه نادر جمعة.
يكتب مردداً الاسم ثم يضغط.
- إرسال.
- هل أرسلت المقالة من بريدك؟
- نعم.
- تسرعتَ في هذا، هكذا يمكن أن يعرفوا المصدر في حال أرادوا البحث.
- ولماذا لم تقولي ذلك قبل أن أرسلها.
رد شوقي غاضباً وعاد إليه قلقه من جديد، ويمكن القول إنه حتى نشر مقالته تلك لم تذق عيناه طعم النوم، فكل يوم يبقى ساهراً حتى الصباح تاركاً باب خياله مفتوحاً لرواية (القوقعة) تسرح في مراعيه ذات العشب الأسود، وفي الصباح يكون أول الموظفين في المكتب ويقلب صفحات الجريدة التي أرسل إليها مقالته والتوتر باد عليه، ثم بعد أن لا يجدها هناك يتنفس الصعداء ويلقي بوجهه على سطح الطاولة فوق ذراعيه وينام حتى نهاية الدوام، وأخيرا في صبيحة اليوم السادس جحظت عيناه وهو يقلب صفحات الجريدة، لقد كانت مقالته تملأ ثلاثة أرباع الصفحة السادسة تقريباً وقبل أن يقرأ أي مادة من الجريدة قام بشق الصفحة السادسة بحنق وطوى الجريدة وكتب عليها : (تمنع الصفحة السادسة) ونده للمستخدم وطلب منه أخذها للمدير ولكنه قبل أن يخرج المستخدم من الباب طلب منه العودة وأخذ منه الجريدة وعدل ما كتبه سابقاً:
- يمنع العدد من التداول.
ثم رمى بنفسه على الكرسي واسترخى.