لا أحد يعرف أي معتوه من حاشية الإمبراطور خلق هذه العادة ، ولكن صورة الإمبراطور أخذت تزين الجدران والأبواب ومداخل ومخارج المدن وكل شيء عدا المراحيض وبيوت الدعارة، وللحقيقة والتاريخ فإن ذلك كان يحدث بشكل طوعي ولم يكن مفروضا على أحد أن يعلق صورة الإمبراطور على بابه أو في بيته إلا أن انتزاع تلك الصورة من المكان الذي علقت فيه لم يكن أمرا طوعيا أبدا، فطالما علقت يجب أن تبقى مكانها وإذا انتزعتها فعليك أن تثبت أنك علقتها من جديد في مكان أكثر ملاءمة، أنا شخصيا لم أعلق صورة الإمبراطور، ليس لأنني أكره الإمبراطور فأنا والحق يقال كنت لا أحبه بنفس القدر الذي كنت لا أكرهه فيه، ولكن يخيل لي أنني إذا علقت صورته على الجدار فإنه سيصبح بمثابة الشبح الذي يراقب كل تصرف أقوم به ، ربما لن أتمكن من النوم، وبالتأكيد لن أشعر بالمتعة أبدا عندما أراه يحدق بي وأنا أرتشف قهوة الصباح، والأنكى من ذلك أنني لن أتمكن من فعل شيء إذا قبلت امرأة الدعوة إلى سريري، حيث يكفي أن أتذكره لكي أعجز عن فعل شي فما بالك إذا كان يراقبني وأنا عار مع تلك المرأة في السرير، إن ذلك سيكون فضيحة كبرى بالنسبة لي، يمكن بالطبع أن أقلب الصورة باتجاه الحائط لكي أشعر بالحرية بعض الشيء، ولكن ما الضمانة في ألا تثرثر تلك المرأة، ولذلك يمكن القول بأنني لم أعلق تلك الصورة لكي لا أشعر بالكراهية نحو الإمبراطور وهذا في نهاية المطاف يصب في مصلحته.
عندما استأجرت الشقة التي أسكنها اليوم ووجدت صورة الإمبراطور معلقة على بابها لم اشعر بالغرابة فقد حدث ذلك معي في عدة شقق أخرى، ومن جهة أخرى فإن صورته لم تكن تثير اشمئزازي فقد ألفتها منذ زمن بعيد، وكونها من الخارج فقد كنت متحررا من نظراته، بل على العكس كنت أشعر به حارسا يمنح الشقة بعض الحصانة.
الأمر الوحيد الذي كان يزعجني في وجود الصورة هو عدم ثباتها، وخشيتي من سقوطها لأسباب خارجة عن إرادتي مما قد يدفع البعض، للتوهم بأنني أنا من فعل ذلك، لا بل أن بعض المغرضين سيقول ذلك وخاصة جاري الذي كان قد كلف رساما برسم صورة الإمبراطور على بابه فكان سقوطها بذلك مستحيلا.
سبب الخطر الذي كان يتهدد الصورة هو حالة الباب المتردية فقد كان طلاؤه متشققا ومقشرا وخشبه منخورا وهشا، أما الصورة فقد كانت زاويتها العليا ثقيلة جدا بسبب ما تجمع عليها من الصمغ الذي شكل طبقة سميكة فكانت بفعل قانون الجاذبية تتغلب على الصمغ فتنحني إلى الأسفل، وهذا ما كان سيؤدي إلى سقوطها في نهاية الأمر، إذا لم يقم أحد بمعالجتها.
في البداية قمت بلصقها عبر شريط لاصق ظننت أنه سيحل المشكلة، ولكنني صباح اليوم التالي وجدتها وقد حنت زاويتها من جديد بينما ظهر لون الخشب مكان قشرة الدهان اليابس الذي تقشر مع الشريط اللاصق، وضعت صمغا ولكن الصمغ لم يكن أفضل حالا من الشريط اللاصق، حيث انحنت الصورة بعد يومين أو ثلاثة منتزعة من الباب نشارة خشبية من الباب الهش، فكرت في نفسي أنه لن يثبت الإمبراطور سوى المسامير ولكن ورق الصورة المهترئة لم يكن يسمح للمسمار بتثبيت الصورة إلا إذا اخترق أذني الإمبراطور حيث كان الورق لا يزال في حالة جيدة، وهذا ما قد يفسر أيضا بشكل غير صحيح ، مما اضطرني لدق المسامير في الجزء البالي من زاوية الصورة لعلها تستطيع تثبيتها حتى الصباح على الأقل، وكما توقعت فقد انحنت الصورة بعد ان تمزقت زاويتها وبقيت المسامير عارية في خشب الباب، فكرت بشراء صورة جديدة ولصقها مكان الصورة القديمة ولكن الرعب دب في قلبي عندما فكرت: (ماذا سأفعل بالصورة القديمة؟) فإذا انتزعتها علي أن أعلقها في مكان آخر، وبما أن الباب لم يكن ليتسع لها مع الصورة الجديدة فقد كان لزاما علي تعليقها في الداخل، وهذا ما لم أكن أرغب به، فكرت أن أمزقها وأرميها في القمامة، ولكن ماذا لو عثر عليها أحدهم؟ لا بد أنهم سيعرفون مصدرها، فكرت بإحراقها، ولكن ماذا سأقول إن سألني أحد أينها؟ سيحرقونني حتما، قررت تركها وممارسة العذاب الذي اعتدت عليه بدلا من كل هذه الأفكار السوداء التي لا تعرف نتيجتها.
مرت أشهر على هذه الحال، كل يوم قبل أن أخلد إلى النوم أرفع بالصمغ رأس الإمبراطور لأستيقظ صباحا فأجده وقد لوى عنقه فأرفعه بالصمغ من جديد، وأكثر ما كنت أخشاه هو سقوط الإمبراطور أثناء غيابي، ولذلك فقد أصبحت أذهب إلى العمل متأخرا وأعود باكرا، وانعدمت زياراتي بشكل كلي تقريبا، ويمكن القول أنني طوال الفترة كنت عبدا لصورة الإمبراطور، بكل ما تعنيه كلمة العبد من معنى.
وذات ليلة شتوية عاصفة وكنت قد دفنت نفسي في الفراش وأخذ النعاس يراود أجفاني أخذت الريح تعصف بشدة وسمعت شيئا يصطفق بالباب فعرفت ماهيته فورا، لقد خلعت الريح زاوية الصورة، نهضت من فراشي مسرعا وركضت نحو الباب وقد أدركت أنني سأقف حتى انتهاء العاصفة مثبتا زاوية الصورة براحتي لأن أي شيء آخر لن ينفع.
ولكن العاصفة كانت أقوى مني فتمكنت من خلع الصورة التي سمعت صوت اصطدامها بالجدران قبل أن أخرج ثم شاهدتها تطير بعيدا عندما خرجت.
احترت فيما أفعله، جاري سيسألني عن الصورة صباحا، إنه ينتظر ذلك منذ زمن بعيد، خاصة وأن كل الذين سكنوا هذه الشقة قبلي خرجوا بسبب اتهاماته لهم بأنهم يتحرشون بزوجته وأنا لم أكن استثناء، حيث كانت غيرته تدفعه للاعتقاد بذلك رغم أنني لم أصادف زوجته سوى مرة واحدة أمام الباب فألقيت عليها التحية ولم ترد.
اللحاق بالصورة واسترجاعها من قبضة العاصفة كان أمرا مستحيلا فقد ابتعدت كثيرا، وترك المبادرة لجاري الغيور كان أمرا يشبه الجنون، فبدايته معروفة ونهايته معروفة، إنه عذاب ربما لن ينتهي إلا بنهايتي، ولذلك لم يكن أمامي بد من طرق باب جاري بقوة جعلته يفتحه ويقف أمامي عاريا إلا من تلك القطعة التي تستر العورة من لباسه الداخلي، ورغم أن منظره بهذا الشكل كان يبعث على الضحك إلا أن المناسبة لم تكن تسمح بذلك، كان علي أن أعاجله بالهجوم قبل أن يسألني ماذا أريد، ولذلك فعندما فتح الباب على الفور صرخت في وجهه:
- بأي حق تخلع صورة جلالته عن بابي؟
وقد حدث ما كنت أتوقعه، فقد درب الرعب في أوصاله وأقسم أنه لم يفعل ذلك ، وعندما لمح ورقة تتقاذفها الرياح تمر تحت ضوء أحد المصابيح التي تنير الشارع صرخ كمن عثر على دليل براءة من تهمة خطيرة:
- إنها الريح من فعل ذلك.
ثم ركض نحو ذلك المكان في لباسه الداخلي لعله يلتقط الصورة وعندما تجاوز ذلك المصباح واختفى في العتمة، عدت إلى غرفتي ودفنت نفسي في الفراش ، ورحت في نوم عميق لم أفق منه إلا على طرقات خفيفة على بابي الذي نهضت وفتحته لأجد زوجة جاري الغيور تسألني إن كنت قد شاهدت زوجها الذي خرج بعد منتصف ليل البارحة ولم يعد.