[jnews_post_author ]
بعد انتخابه رئيساً للجمهورية سنة 1936، قام الرئيس هاشم الأتاسي بتعيين أحد وجهاء جبل العلويين محافظاً على مدينة دمشق، وهو عزيز الهواش. كان ذلك بعد إعادة ضم كلٍ من جبل العلويين وجبل الدروز إلى الوطن الأم، منهياً انفصالاً قسرياً في تلك المناطق، فرض من قبل حكومة الانتداب الفرنسي منذ عام 1920. وإضافة للهواش، جاء الأتاسي بنسيب البكري، وهو سني من دمشق، محافظاً على جبل الدروز. أراد الأتاسي أن يكسر العادات المتوارثة ويخلق حالة من التلاحم الشعبي بين أبناء الوطن الواحد، مع إعطاء محفزات سياسية لأبناء الطائفتين العلوية والدرزية. ولكن قراره لم يصمد، وقد أجبر على التراجع عنه تحت ضغط من أهالي دمشق والسويداء، الذين اعترضوا على تعيين شخص غير دمشقي في العاصمة وغير درزي في الجبل، محافظاً على مدينتهم.
بعد خمس سنوات وفي منتصف الحرب العالمية الثانية، صدر قرار نهائي بضم الجبلين إلى سوريا، وكان ذلك في عهد الرئيس تاج الدين الحسني، المُعين في منصبه من قبل الجنرال شارل ديغول. قام الحسني بتعيين كل من منير العباس والأمير حسن الأطرش في مناصب وزراية، لتكون هي المرة الأولى في تاريخ سوريا الحديث التي يتم فيها توزير ممثلين عن الأقليات غير المسيحية. لم يعترض أحد هذه المرة، ومر القرار بسلام، فأصبح العباس وزيراً للأشغال العامة والأطرش وزيراً للدفاع. هذا مع العلم أن المنصب الأخير كان شرفيا لا معنى حقيقيا له، بسبب عدم وجود جيش سوري في حينها. ولكن حتى هذه التجربة لم تستمر طويلاً، بسبب وفاة الرئيس تاج الدين الحسني وهو في سدة الحكم عام 1943. طلبت فرنسا من خلفه، الرئيس شكري القوتلي، إيجاد مناصب ثابتة لكلا الطائفتين في الحكومة السورية ولكنه رفض ذلك بشدة، قائلاً: “لن نعيد التجربة اللبنانية في سوريا.” جاء كلام القوتلي في وقت كان زعماء لبنان يضعون الميثاق الوطني لبلادهم، وهو اتفاق “جنتلمان” غير مكتوب، مُبرم بين رئيس الجمهورية بشارة الخوري ورئيس وزرائه رياض الصلح. نص الميثاق اللبناني على توزيع الحكم بين الطوئف، معطياً رئاسة الجمهورية للموارنة ورئاسة الحكومة للمسلمين السنة، وهذا ما رفضه القوتلي بشدة.
إرضاء الأقليات في مطلع عهد الاستقلال
مع ذلك، حاول شكري القوتلي إرضاء الأقليات بطرق أخرى. فقد جاء بفارس الخوري رئيساً لمجلس النواب ثم رئيساً للحكومة ورئيساً للوفد السوري الدائم في الأمم المتحدة، وضمت كتلته البرلمانية كلاً من ناظاريت يعقوبيان، ممثلاً عن الأرمن، ويوسف لينادو، ممثلاً عن يهود دمشق. وقد جاء بالأمير عادل أرسلان مستشاراً سياسياً له وبالصحفي عبد اللطيف يونس مستشاراً إعلامياً. والأخير كان من أبناء الطائفة العلوية وقد وضع كتاب تمجيد عن القوتلي تحت عنوان “تاريخ أمة في حياة رجل.” وفي الذكرى الأولى لعيد الجلاء، قلّد القوتلي الشيخ صالح العلي وسام الاستحقاق السوري من الدرجة الممتازة، محاولاً خلق شرخ بينه وبين سلطان باشا الأطرش، قائد الثورة السورية الكبرى.
علاقة القوتلي مع الدروز لم تكن جيدة، بسبب عداوة قديمة بينه وبين الأطرش، تعود إلى عشرينيات القرن العشرين. الأطرش كان حليفاً لعبد الرحمن الشهبندر، منافس القوتلي على زعامة دمشق وهو مقرب من الأسرة الهاشمية الحاكمة في بغداد وعمّان. أما القوتلي، فقد كان محسوباً على المحور السعودي المصري المناهض للهاشميين وحلفائهم في سوريا والوطن العربي. وقد تجلى هذا الخلاف في عيد الجلاء الأول، الذي قاطعه سلطان الأطرش بدمشق وأقام احتفالاً كبيراً في جبل الدروز، غاب عنه القوتلي ورجاله. وكان هذا الخلاف هو سبب مباركة الأطرش لأول انقلاب عسكري في سوريا، انقلاب حسني الزعيم، الذي أطاح بشكري القوتلي وحكمه في 29 آذار 1949. وفي عهد الزعيم، أصبح عادل أرسلان وزير خارجية سوريا، ليكون أول…وأخر وزير درزي يتبوأ هذه الحقيبة.
القوتلي وأدونيس
العلويون رفضوا تأييد الزعيم، وظلّوا محافظين على دعمهم للقوتلي. لم ينسوا أنه زار قراهم واجتمع مع مشايخهم خلال جولته على المحافظات السورية عام 1947، ومن أشهر ما حدث معه يومها هو ظهور فتى صغير أمامه، يُدعى علي أحمد سعيد، الذي ألقى قصيدة ترحيب برئيس البلاد. أعجب القوتلي بالفتى وسأله: “ماذا تريد؟” فأجاب، أريد أن أتعلم، فما كان من القوتلي إلا أن أرسله إلى المدرسة على نفقته الخاصة، ليتخرج الطفل ويصبح شاعراً مرموقاً في العالم العربي، يُعرف باسم “أدونيس.”
في الخمسينيات
بعد زوال حكم أديب الشيشكلي العسكري، جاء التوزير الثاني للعلويين، عند تعيين الطبيب وهيب الغانم وزيراً للصحة في حكومة صبري العسلي، المؤيدة للقوتلي سنة 1955. لم يكن هذا أن يتم لولا كسر حاجز الخوف من هكذا خطوة، بداية مع الأتاسي ومن ثم مع الشيخ تاج. الغانم طبعاً هو من البعثيين القدامى وهو الذي نَسَّبَ حافظ الأسد إلى حزب البعث. وبعد عودة القوتلي إلى الحكم في أيلول من ذلك العام، قام بتعيين الشاعر بدوي الجبل وزيراً للدعاية والأنباء ومن ثم وزيراً للصحة، وهو صديق قديم للوطنيين وعضو مؤسس في الحزب الوطني. التعاون مع الأقليات لم يتوقف عند هذا الحد، فقد تم تعيين الضابط الدرزي شوكت شقير رئيساً لأركان الجيش في عهد الشيشكلي، وكذلك الدرزي عبد الكريم زهر الدين، الذي أصبح رئيساً للأركان في عهد الانفصال ما بين 1961-1963. وقد وصل عدد من السوريين الأرمن إلى مناصب مرموقة في المؤسسة العسكرية، مثل آرام كارامنوكين، قائد سلاح المدفعية في عهد هاشم الأتاسي، وهرانت مانوليان، قائد الدرك في عهد القوتلي الأول. جميع هذه التعيينات لم تُثِر استغراب أحد أو احتجاج أحد، في دليل قاطع على أن الأقليات لم تكن منبوذة ومحرومة من المناصب العليا في الدولة السورية قبل عام 1963.