[jnews_post_author]
في 18 كانون الثاني 1940 دخل رجل على مكتب وزير المالية العراقي رستم حيدر وأطلق عليه ثلاث رصاصات أدت إلى مقتله بعد أربعة أيام في أحد مستشفيات بغداد. حاول كثيرون إلصاق صفة سياسية بالجريمة ولكن القضاء العراقي يومها أكد أنها تمّت بدوافع شخصية من الجاني، الذي قرر التخلص من الوزير لأنه منع عنه التوظيف في الوزارة.
رستم حيدر كان لبناني الأصل من سهل البقاع، ومن أبناء الطائفة الشيعية. مع ذلك، وفي العودة إلى جميع الصحف اللبنانية والعراقية الصادرة في تلك الفترة، نجد أن أحداً من المحررين والكتاب لم يتكهن أن دافع الجريمة كان طائفياً، علماً أن الجاني كان مُسلماً سنياً والمغدور كان مُسلماً شيعياً. في ظلّ المد القومي العربي، الذي كان سائداً في حينها، لم يكن أحد يُفرق بين الطوائف والأديان، إيماناً بالعروبة. والمسؤول عن تبنيه وتشجيعه كان الملك فيصل بن الحسين، ملك سورية والعراق، قبل عقود من ظهور جمال عبد الناصر على الساحة العربية، وكان شعار الملك فيصل هو: “نحن عرب قبل أن نكون مُسلمين.” وكذلك كان الحال في سورية التي حكمها فيصل ما بين 1918-1920 فقد رفض مثلاً إدراج الطائفة والدين على الهويات التي صدرت في عهده، ولم يبدأ هذا العرف إلا في زمن الانتداب الفرنسي (1920-1946). وقد تعاون فيصل مع كل الأقليات، فعين الشيعي حيدر مستشاراً له والدرزي رشيد طليع وزيراً للداخلية والمسيحي البروتستانت فارس الخوري وزيراً للمال. وبعد خلعه عن عرش سورية إبان معركة ميسلون الشهيرة، عُيّن فيصل ملكاً على العراق في 23 آب 1923. هذا التاريخ قد لا يعني شيئا في التقويم المسيحي، ولكنه صادف يوم 18 ذي الحجة في التقويم الهجري، وهو يوم هام جداً لدى المسلمين الشيعة، اختاره فيصل بدقة، لأنه وبحسب معتقداتهم، عَيّن فيه النبي محمد صهره الإمام علي بن أبي طالب خليفة على المسلمين بعد العودة من حجة الوداع.
هذا لا يعني طبعاً أن الأمة كانت تعيش في نعيم ومتجاوزة لكل أحقادها التاريخية، بين المُسلمين والمسيحيين وبين السنة والشيعة. ولكنها كانت على استعداد، لو رزقت بقيادة حكيمة، لتناسي تلك الأحقاد لأجل النهوض بدولة قوية تعلو فيها المواطنة فوق أي اعتبار طائفي أو ديني. ففي سورية مثلاً كان السيّد مهدي مرتضى من رجالات الكتلة الوطنية، ومن حلفاء زعيمها (السني) جميل مردم بك، وكذلك الحال مع الشيعي اللبناني سعيد حيدر، أستاذ القانون في معهد الحقوق، الذي خرجت دمشق في الدفاع عنه عند اعتقاله من قبل الفرنسيين بتهمة تقاضي أموال من الولايات المتحدة الأميركية. وكانت هذه المظاهرات تمر أمام “نهر يزيد” الشهير في دمشق، المسمى على اسم “يزيد بن معاوية” المتهم الأول بمقتل الإمام الحسين والتنكيل بآل البيت.
طبعاً، كان هناك استثناءات لهذا الوفاق، قبل انهياره كلياً في العقود الماضية. ومن ضمنها على سبيل ما جاء على لسان فارس الخوري أمام الصحفي محمد الفرحاني، صاحب كتاب “فارس الخوري وأيام لا تنسى” (الصادر في بيروت عام 1965). يقول الخوري إن بعض أهالي حي الميدان الدمشقي قاموا بشطب اسمه من قوائم الكتلة الوطنية خلال انتخابات عام 1943، لمجرد أنه مسيحي، ويُضيف أن رئيس القائمة شكري القوتلي كان يُفضل تعيين لطفي الحفار (الدمشقي السني) رئيساً لمجلس النواب بدلاً منه، تجنباً لإثارة أي نزاع ديني أو طائفي. وبعد سنوات، عيّن الرئيس القوتلي حيدر مردم بك سفيراً لسورية في العراق، فجاء الأخير إلى دمشق شاكياً من سوء معاملة بعض العراقيين له لمجرد أن اسم نجله كان “معاوية.”
ولكن هذه الأحقاد ظلّت وإلى حد بعيد مطوية لسنوات، ولم تتفجر بشكلها الحالي إلا بعد ثورة الخميني سنة 1979. كانت الأمة وحتى ذلك التاريخ تحاول فعلاً تناسي أحقاد الماضي، بالرغم من بعض الخروقات. فالشيعة كانوا موجودين في لبنان ولم يكونوا “محرومين” كما قال الإمام موسى الصدر. والدليل أن عدداً من قياداتهم الكبار وصلوا إلى أعلى المراتب في الدولة اللبنانية ومنهم المرحوم صبري حمادة، رئيس مجلس النواب لفترات متقطعة ما بين 1943-1970، وعادل عسيران، رئيس المجلس ما بين 1953-1959. ولا علاقة لهذه الأسماء الشيعية بالميثاق الوطني المبرم شفهياً سنة 1943، لأنه كان ينص على تقاسم المناصب بين المسلمين والمسيحيين الموارنة، فقط لا غير، وليس فيه أي إشارة إلى الشيعة. الفارق بينهم وبين زعماء شيعة لبنان اليوم هو أنهم كانوا من العائلات الشيعية الإقطاعية، وليس من الفقراء (وهم جمهور حركة أمل وحزب الله). وقد جاءت الثورة الإسلامية لتصدير نظام ولاية الفقيه إلى العالم العربي، وتشجيع الشيعة على “النهوض” والمطالبة بحقوقهم “المسلوبة،” مما أدى طبعاً إلى ظهور سلاح حزب الله في لبنان سنة 1982 والحشد الشعبي في العراق، وقبله ميليشيا بدر وغيرها. الكثير من هؤلاء الشيعة استقووا فعلاً بالخميني وثورته، ولكنهم لم يكونوا الأكثرية لا في سورية ولبنان ولا العراق. والخوف اليوم هو أن تلصق هذه التهمة بهم مدى الحياة، تماماً كما ألصقت بسكان المشرق من الطائفة اليهودية الذين رفضوا إسرائيل ومشروعها الصهيوني ولكنهم دفعوا ثمنها لأجيال، مثلما يدفع شيعة المنطقة اليوم ثمن انتمائهم إلى مذهبهم، بالرغم من براءة البعض منهم من إيران.
أمير سعادة