فواز حداد – الناس نيوز ::
تتقدم القوات الروسية، على الرغم من المقاومة الأوكرانية، مع البدء بهجوم مكثف في منطقة دونباس. قبلها جرى تجميد محادثات السلام مع كييف بحجة أن المفاوضات وصلت إلى طريق مسدود بعد نقاشات شاقة. الواضح أن مستقبل أية تسوية دبلوماسية سوف تعتمد على ما سيحدث في ساحة المعركة، حيث تسعى روسيا إلى الاستيلاء على الدونباس بالكامل. ما سيمثل نقطة تحول كبيرة في الحرب. بذلك يكتمل نزع سلاح أوكرانيا إلى حد كبير. عندئذ ستصر موسكو على أن تدور المفاوضات حول حدود روسية أوكرانية جديدة.
حسب مراقبين، سيكون هناك طريقان أمامها لتتعامل روسيا مع أوكرانيا حول محادثات السلام، الأول العودة إلى المفاوضات والسعي إلى اتفاق شامل مع كييف. الثاني استخدام المحادثات كذريعة لوقف إطلاق النار، تمهيدا لشن هجوم آخر واسع النطاق للسيطرة على المزيد من الأراضي.
في الوقت الذي يحصل بوتين على ما يريد، يبدو غير مهتم بالأمريكان والأوربيين، وما يسدونه من دعم لأوكرانيا بالسلاح وأنواع المساعدات، ما زال يهددهم بالتضييق عليهم بإجراءات مضادة، لن يتحملها الأوربيون، بينما يحض بوتين الروس للاعتماد على الاكتفاء الذاتي، ويلاقي نسبة كبيرة من التأييد الشعبي، فالزعيم الأوحد كرس شعبيته على شعب مضلل كما تفعل الدكتاتوريات.
هذه المقدمة، ليست إلا لتدفعنا الحرب في أوكرانيا إلى التأمل، سواء انتهت بعد أشهر أو امتدت سنوات، فالخراب هو المحصلة، نراه في تحول ميناء ماريوبول حسب المراسلين الصحفيين إلى رماد وأرض مقفرة من المباني السكنية المتفحمة، وجثث ملفوفة في بطانيات على الأرض في الشوارع، بينما ما يزال تدفق بأمواج اللاجئين الأوكرانيين، مستمراً بين مشاهد المباني التي دمرها القصف.
مهما يكن، يبدو أن العالم نفض الغبار عن ذاكرته، ولا يستبعد المتفائلون بالضمير الغربي أنه بدأ يشعر بالذنب، إلا إذا كان مؤقتاً، كما اعتاد السياسيون ذلك لأغراض آنية. أما التمييز الصريح بين سوريا وأوكرانيا، فهو أن أوروبا وأمريكا حشدت العالم ضد بوتين عندما غزا أوكرانيا وفرض عليه العقوبات، ولم يفعل نفس الشيء مع سوريا.
هل من هذا المنظر، تذكر المسؤولون الأوربيون ملايين اللاجئين السوريين الفارين من القصف الروسي، يموتون غرقاً في البحار، وبرداً على الطرقات للحصول على ملجأ آمن؟ طبعا لا، وإنما من تلك التصريحات العنصرية التي أسهموا فيها، وما حفلت به من تمييز في اللجوء على أساس اللون والدين والعرق، والتعبير عنه بشكل لا يعتبر زلات لسان، وذلك في تباري السياسيين إلى وصف اللاجئين السوريين بأنهم “ليسوا نوعنا من اللاجئين”، أو “أناس لسنا متأكدين من هويتهم”، أو “إنهم أشخاص لهم ماض غير واضح، يمكن أن يكونوا إرهابيين”، على خلاف اللاجئين الجدد البيض المرحب بهم “ليسوا من نمط اللاجئين الذين اعتدنا عليهم، هؤلاء الناس أذكياء، ومتعلمون”. هذه النغمة العنصرية تراجع استخدامها، ومهما حدث فسوف ينضم الأوكرانيون إلى ما سبقهم من اللاجئين، ولن يتميزوا عنهم كثيرا.
وبما أن التذكر حان أوانه، فالحكومات الأمريكية والأوربية، أودعت سورية بين أيدي الروس لإيجاد حل للحرب الأهلية، أو الحرب ضد الإرهاب، أو الحرب الاقليمية، وكان بموافقة إسرائيل لئلا تتمدد إيران. هذا التعهد لم يعد مفتوحاً، بحجة أن الحرب التي لم تهدأ كانت ضد الشعب السوري، وتمدد إيران بإنشاء خلايا وقواعد دائمة، بينما الحرب ضد الإرهاب، فتحضر وتغيب، تستجمع قواها ثم تعاود الكرة. خلالها كانت مدن سوريا وقراها أرضاً صالحة لتجارب السلاح الروسي، الذي يستعمل اليوم في أوكرانيا. أخيراً لا تقدم في إيجاد حل للأزمة السورية.
ليست الحكومات وحدها من تغاضت عن مآسي الآخرين، كذلك الرئيس الأوكراني زيلينسكي، فقد كانت له جولات في هذا المضمار فيما مضى، فعلى رأس الإجراءات التي اتخذها في عهده، انسحاب أوكرانيا من “لجنة الأمم المتحدة المعنية بممارسة الشعب الفلسطيني لحقوقه”، مع أن عمل هذه الهيئة الدولية، التأكد من عدم إنكار النكبة الفلسطينية أو نسيانها. كذلك في مقابلة أجريت معه بعد القصف الإسرائيلي الوحشي لقطاع غزة في مايو/أيار 2021، صرح بأن المأساة الوحيدة هي معاناة الإسرائيليين.
للذكرى أيضاً، كان زيلينسكي قبل الرئاسة ممثلاً كوميدياً بارعاً، أما في إجراءاته حول فلسطين أو تصريحه حول غزة فكان ممثلاً رديئاً، وفي حال ما زال على رأيه فسوف لا يزيد عن مهرج، إذ بات تصريحه يعني الحرب في بلده، فيصبح الروس الذين يقصفون البلدات الأوكرانية بوحشية، وحدهم الذين يعانون، لا شعبه.
ينطبق هذا على وزير خارجيته، قد يكون هو الأخر ممثلاً رديئاً ما دام من فريق حكومته، عندما اشتكى خلال الحرب للسفير الإسرائيلي قائلا “إنكم تعاملوننا مثل غزة”، أي أنكم تسمحون للروس بقصفنا، نحن لسنا غزة.
سيتذكر زيلينسكي في خطوة لن تكون مفاجئة في محاولة لاستعطاف الشعوب العربية والإسلامية، عندما ألقى كلمة في منتدى الدوحة في دورته العشرين عبر الفيديو، ما كان يتجاهله، وذلك بتشبيه تدمير روسيا لميناء ماريوبول بالدمار الذي لحق بمدينة حلب السورية. ويشير إلى أن بلاده متنوعة، بها أكثر من مليون مسلم. بل وسيتذكر سكان القرم من المسلمين ويتهم موسكو بممارسة القمع السياسي عليهم.
ما يتذكره قادة الدول، لا يعني أكثر من النظر إلى مآسي الآخرين على أنهم يستحقونها، مثلما يفعلون عندما ينكرون مأساة الفلسطينيين للتقرب من إسرائيل مجرمة. إن الحروب اللاإنسانية تعيد النظر في الإجرام مهما كان نوعه أو مصدره، ولا تسمح بالتلاعب في وصفه، فالجريمة جريمة والمأساة مأساة. إن ما يستدعى التذكرة والعبرة والمزيد من الدروس، أن البشر لا يتعلمون، وهكذا تتكرر، الدكتاتوريات والجرائم والأخطاء والغباء البشري.
صحيح أن العالم يتذكر أحياناً… لكنه سرعان ما يتعمد النسيان.