محمد برو – الناس نيوز :
ما من أحد يجهل قصص “تان تان” المصورة، والتي كانت تجذب ملايين الفتيان في عشرات البلدان ومئات المدن لمتابعتها، فقد كانت مترجمة لأكثر
من سبعين لغة، ففي بداية عام 1930 وعلى مدى ما ينوف على ثلاثة وخمسين عاماً، أصدر جورج بروسبير ريمي أربع وعشرين قصة مصورة،
اختار لها بطلها الذي عمت شهرته الآفاق، وهو الشاب الصحفي المغامر “تان تان” الذي طاف عبر حكايات بروسبير عوالم الشرق والغرب، وصولاً إلى
الفضاء الخارجي، سبعةٌ من تلك الأعمال تدور أحداثها في آسيا والعالم العربي، وواحدة في جنوب أفريقيا.
جورج بروسبير رسام كاريكاتير بلجيكي، رغب أن تمهر أعماله باسم فني اختاره لنفسه، وهو “هيرجيه” في البومة الأول “مغامرة “تان تان” في
الكونغو المنشورة في يونيو/حزيران عام 1930، والتي يتبدى بها هيرجيه بصفته صاحب نظرة استعمارية متعالية، تجاه المجتمعات الإفريقية عامة،
فهي بحسب ما يورد، مجتمعات بدائية متخلفة كسولة صبيانية خرافية. وهو بهذا يخلق تبريرا لا واعيا للاستعمار الأوربي، الذي ساهم بشكل كبير في
ترسيخ التخلف واعاقة النمو والتعليم والتطور الطبيعي، الذي حظيت به مجتمعات أخرى، سيما أنَّ التخلف ليس قدراً طبيعياً للأفارقة ولا لغيرهم،
لكن استمرار الغرب وإلى اليوم في سلب ونهب مقدرات بلادهم، والاستيلاء على أنفس المعادن والمواد الخام، التي من شأنها أن تسهم بقدر كبير في
بناء تنمية مستدامة، ونهضة بتلك البلاد والشعوب عبر استثمار مقدراتها الطبيعية، فهذه مشافي ومختبرات وجامعات ومراكز الأبحاث الاوربية
والأمريكية، تغص بهم وتثبت لهم فضلهم وربما سبقهم في بعض المجالات.
في مقدمة كتابه “العالم العربي في ألبومات تان تان” للدبلوماسي الفرنسي “لوي بلين” وهو باحث أكاديمي، أظهر اهتمامه بالعالم العربي، وهو يؤكد
أنَّ الكثير من الأوروبيين الذين أبدوا اهتماماً وربما انجذابا للعالم العربي، في عصر تراجعت في الاهتمامات الغربية بهذا العالم الذي وسم بالتخلف، إنما
كان بسبب ذلك الانتشار الواسع لألبومات “تان تان” المصورة، والتي شكلت بالنسبة للغرب نوعاً من الثقافة الشعبية، وأسست لنظرة استعمارية متعالية تجاه العالم العربي.
لكن هل كان هيرجيه يعني في حكاياته وعباراته المتعالية، الكشف عن نظرته العنصرية الاستعمارية تجاه العرب والأفارقة، تلك النظرة التي تخلق
مبرراً موضوعياً للاستعمار الذي يريد فرض التحضر على الأقوام المتخلفة.
ليس بالإمكان الجواب على هذا السؤال بشكلٍ منصف، لكن يمكن إعادة قراءة تلك النصوص والوقوف بوضوح على العبارات والصور المتكررة التي
تنضح بالازدراء والاستخفاف، وحتى الاستهانة بالعرب وثقافتهم وبالعنصر الأفريقي الذي يتسم في معظم المشاهد بالغباء والسذاجة.
وتكشف تلك النصوص لمتتبعها مدى الجهل العميق، الذي كان يحمله كاتب تلك القصص بثقافة العالم العربي ونمط حياته، فها هو “تان تان” يركل
برجله شجرة نخيل لتتساقط عليه مضافة كاملة من البلح، مما يدل على جهلٍ تامٍ بهذه الشجرة العظيمة، وهو لم يعدُ في العديد من المشاهد عن
ملتقط لبعض الصور النمطية التي تناقلتها الركبان دونما تدقيق، وربما جرى تشويه بعضها عمداً، لتزداد الحكاية اثارة وغرائبية.
لا يمكن النظر إلى مجمل هذه الحكايات انها بريئة عن القصد السيء، فهي لا تنفصل عن منهجيةٍ فنيةٍ وثقافيةٍ استعمارية، ما تزال تمطرنا عبر عوالم
هوليود وغيرها من مؤسسات الإنتاج الفني العابر للقارات، والتي لا تفتر في كل مناسبة، عن تصوير العربي بالجهل والسخف والانغماس الأرعن بالجنس والمال والإرهاب.
في المقابل ينحت هيرجيه شخصية بطله “تان تان” كنموذج متفوق بهدوء، في قضايا العدالة والبطولة ونكران الذات والفروسية التي تخوض غمار
المخاطر دون خيلاء ولا خوف، وهو أبدا مقاتل ضد الشر والظلم وكأننا ننظر إلى دونكيشوت بلجيكي متطور.
والغريب أن دار المعارف المصرية، والتي بدأت بترجمة أعمال هيرجيه عام “1942” لم تبد أي اعتراض على العبارات المسيئة للعرب.
خلاصة القول إن “لوي بلين” يجد أن هيرجيه لم يتخلص من نظرته العنصرية الكامنة عند الأوربيين حيال الشرق ويؤكد “أن نزعة التمركز حول
الذات الأوربية قد نسجت أولا بخيوط الجهل والغباء، ولائحة الاتهامات بالعنصرية ضد العرب عند هيرجيه ثقيلة، وإذا لم يقم أحد بعرضها حتى الآن،
على العكس مما جرى مع السود واليهود، فليس لقلة المواد المتعلقة بالأمر، وإنما في أحسن الأحول لقلة الاهتمام بالمسألة”.
لقد كشفت أعمال هيرجيه عن مدى جهل الأوربيين بالعالم العربي لدرجة أنهم يصدقون أفظع الحماقات عنه دون أدنى اعتراض، ومن أمثلة ذلك انه
يظهر العرب في البوماته بصفتهم تجار رقيق، مع العلم أننا لو أجرينا مقارنة إحصائية بين ما فعله العالم المتحضر وفي مقدمتهم مملكة بلجيكا في مئة
عام من استرقاق وقتل للأفارقة، سنجدها تعادل أو تزيد على ما ارتكبه العرب في خمسمئة عام، فقد تأرجحت الروايات في أعداد الأفارقة الذين
قتلهم ليوبولد الثاني ملك البلجيك خلال فترة حكمه ما بين عشرة ملايين وخمسة عشر مليون افريقي.
وهذا ما يؤكده لوي بلين “إذا كانت العنصرية الكامنة في هذه الالبومات تبدو اليوم مروعة، إلا أنها تمسي لا قيمة لها مقارنة بالتجاوزات التي اتهم بها
ملك البلجيك في مستعمراته الإفريقية في القرن التاسع عشر، وبالدعوات العنصرية إلى القتل التي شاعت في أوربا في ذلك الوقت”.
العالم العربي في البومات “تان تان”
من مترجمات المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات
إصدار 2021. ترجمة سعود المولى يقع الكتاب في 245 صفحة