د . محمد حبش – الناس نيوز ::
قراءة في السيرة النبوية وهي بالتعبير الشرعي درء الحدود بالشبهات، وهذا الربط بين المصطلحين غير مشهور في الأدب الحقوقي، ولكن هذه المقالة تجتهد في تقديم الأدلة على ذلك.
تعيش سوريا اليوم أياماً صاخبة، بعد السقوط المريع للنظام البائد الذي أسقط قبل سقوطه كل مفردات العدالة والحقوق والمشاركة وحكم بإرادة الفرد المطلق خمسة وعشرين عاماً منها أربعة عشر عاماً بإرادة المنفصل عن الواقع، وكان كمن دخل قمرة قيادة فضغط بعصبية ونزق على كل الأزرار الخطأ ثم مضى ينتظر المصير الأسود حيث شاءت له الأقدار الغاضبة.
الذين اسقطوا النظام البسطاري استخدموا البسطار نفسه، ولم يكن له أن يسقط بأقلام النخب ومواعظ الحكماء ولا حتى قرار القضاء وقرارات مجلس الأمن ولا الأمم المتحدة، وكان أسوأ النتائج التي ترتبت على عجز النظام الدولي عن الإنصاف أن يقوم الناس بالانتصاف لأنفسهم، وعلى الرغم من وضوح التصريحات عن فرق ما بين الثورة والدولة، ولكن من الواصح أن آلافاً من المكلومين لا ينتظرون إذناً من أحد، ويبادرون بأيديهم لتنفيذ ما يعتبرونه عدالة وقصاصاً.
ونحاول هنا أن نقارب الحقائق وآمل أن تصل هذه الكلمات للغاضبين المكلومين، وأن يدركوا أن الانتقام ليس هو العدالة، وأن الأحقاد لا تصنع وطناً، وأن من حق المجرم نفسه ان يحظى بمحاكمة عادلة وأن يجد من يدافع عنه في محكمة تخضع لقانون حقيقي.
هناك جملة قواعد أساسية في العدالة الانتقالية يجب أن نلاحظها:
أولاً: المرتكبون يحاسبون وفق قانونهم، فمن كان مع الجيش أو الشرطة ونفذ ما يؤمر به في إطار القانون لا يمكن اعتباره مجرماً أو مداناً، ومن واجب المرحلة أن تخاطبه بالعبارة النبوية الشهيرة اذهبوا فأنتم الطلقاء
ثانياً: يؤاخذ الجاني بالممارسات التي ارتكبها ضد القانون، ومن المؤكد ان القوانين السابقة على الرغم من هزالها وانحيازها فهي لا تأذن بالتعذيب ولا بالقتل بدون محاكمة بل تفرض عقوبات صارمة على من يمارس ذلك ومن الممكن أن يحاكم هؤلاء المجرمون وفق قوانينهم التي كانوا يعملون في ظلها.
ثالثاً: قاعدة حقوقية أساسية هي أن التعديل في القانون نسخاً وتفسيراً يفسر لمصلحة المتهم، يعني لو ارتكب جرماً عقوبته خمس سنوات، ثم تعدل القانون فصار عشرة فإنه لا يسري عليه بأثر رجعي ويبقى حكمه الأخف، خمس سنوات، ولكن لو تعدل الأمر إلى الأخف فكان الحكم عشر سنوات ثم تعدل إلى خمس سنوات فإنه يستفيد من ذلك بأثر رجعي ويتم تلقائياً تعديل محكوميته إلى خمس سنوات.
الأسرى يحاكمون وفق قوانينهم التي كانوا يؤمنون بها ولا يحكمون وفق قوانين الثورة التي لم يكونوا طرفاً في عقدها الاجتماعي، ولذلك فإن القوانين الدولية تمنع محاكمة الأسرى، ولو تمت محاكمة الأسرى وفق قوانين الدولة الغانمة فإنهم سيعدمون بكل تأكيد.
رابعاً: إن العفو الذي تصدره السلطة الغالبة يكون عن جرائم ارتكبت وليس عفواً عن الأبرياء، فما معنى أن نقول إنه عفو ونحن نوجهه لأشخاص لم يرتكبوا جرماً قط؟ العفو يكون عن الجاني وهذا جيب أن يكون واضحاً في وعي الشعب.
خامساً: إن أي قادعدة في العدالة يجب أن تلتزم بقول الله تعالى: ولا تزر وازرة وزر أخرى، وكل امرئ بما كسب رهين، والانتقامات التي توجه للطائفة والعائلة والمذهب وأتباع الديانة هي أعمال جرمية لا علاقة لها بالعدالة من قريب ولا من بعيد.
ولعل أوضح صور العفو والغفران في الإسلام هو قول الرسول الكريم اذهبوا فأنتم الطلقاء، لقد قالها الرسول الكريم حين أسقط في أيدي خصومه الذين حاربوه عشرين عاماً بلا توقف، وحين وقفوا بين يديه كان فيهم السيوف التي بطشت بسبعين صحابياً يوم أحد، وكان فيهم آكلة الأكباد هند، وفيهم جلادو بلال وخباب ، وفيهم من كان يشتم الرسول كل صباح ومساء.
وفي خطوة أكثر إقداماً وشجاعة نظر إلى الرجل الذي كان يقود الحرب ضد محمد، ويجيش الجيوش لحربه وهو مسؤول دون شك عن أكثر من مائة شهيد من الصحابة، فقال بكل شجاعة وحكمة: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن!!
كلنا يعرف هذه عبارة أنت الطلقاء، ويعتز بها كموقف رحمة وتسامح فريد في التاريخ، ولكن هذه العبارة تتعرض اليوم للجحود، فهناك من هو مستنفر على كل صفحة للرد على هذه العبارة وكأنها تشويه للإسلام والرسول، وكأن ليس للرسول أن يؤسس للتسامح والمحبة والغفران، والدليل الذي يشوقونه لرفض هذه الرواية أنها لم ترد في البخاري ومسلم.
صح، ولكنها وردت في 76 كتاباً من كتب السيرة المعتمدة في التاريخ الإسلامي والموثوقة عند كل أهل السنة، ومنها سيرة ابن اسحق وسيرة ابن هشام وسيرة ابن كثير وتاريخ ابن جرير وسيرة ابن سيد الناس وطبقات ابن سعد ، وكلهم كانوا يتحدثون عن عفو النبي الكريم، بل إن البخاري ومسلم ذكرا كلمة الطلقاء في خروج الطلقاء مع النبي إلى حنين، ولكن في غمار نزوات الانتقام لا يستوعب العقل الموتور دروس الرحمة ولا يرى فيها إلا الضعف والتخاذل والتخلي عن العدالة.
والعبارة في تجليها الأعظم تشتمل على ثلاثة أبعاد مهمة:
في البعد الإيماني فهي موقف رحمة ومحبة، وهي تسامي الإخاء الإنساني، وانتصار قيم العفو والغفران، ويدرؤون بالحسنة السيئة، فمن عفا وأصلح فأجره على الله.
وفي البعد السياسي فهي قرار حكيم ومسؤول من قائد يريد أن يضع نهاية للحروب، ولا يريد أن يجره الانتقام إلى حروب جديدة.
وفي البعد الحقوقي فهو موقف نبيل وحقوقي حكيم، إنهم قاتلوك وهم لا يؤمنون بقرآنك لقد قاتلوا وهم يؤمنون أنهم يدافعون عن دينهم ومعتقداتهم، وأظهر كثير منهم حماساً وتضحية لأنهم يؤمنون بما يصنعون، وليس من العقل ولا الععدل ولا القانون أن يؤاخذ المرء وفق قانون لا يعرفه ولا يؤمن به، وإذا كانت الحدود تدرأ بالشبهات فهذه تكفي لدرء الحد عنهم، والبحث في البدائل المتاحة.