واشنطن – الناس نيوز ::
تتميز العزلة عن الوحدة بقدرتك على اختيار الأولى، فيمكنك قضاء ليلة بمفردك، لتستمتع بخلوتك إلى نفسك، في حين تفرض الوحدة نفسها عليك، على الرغم من وجود عائلتك وأصدقائك من حولك.
ربما شعرت مرات بتلك المفارقة، لكن هناك سببا لشعورك بوحدة عميقة في جلسة تملؤها البهجة والحب وسط الأحباب.
العالم من منظور وحيد
طبّق باحثون من جامعة كاليفورنيا “مقياس الشعور بالوحدة” (UCLA Loneliness Scale) على طلاب من الجامعة، إذ أجاب الطلاب عن استطلاع عن شبكتهم الاجتماعية، وأسئلة عن أسماء كل شخص درسوا معه أو تناولوا معه وجباتهم أو تنزهوا معه في الأشهر الأخيرة.
قسم الباحثون الطلاب إلى مجموعتين وفق إجاباتهم: الأولى يشعر أفرادها بالوحدة، وسجلوا درجات أعلى من المتوسط، والثانية سجلت درجات أقل من المتوسط على “مقياس الشعور بالوحدة”.
بعد ذلك أجرى الباحثون 63 مسحا بالرنين المغناطيسي لعقول الطلاب، امتد كل مسح نحو 90 دقيقة، وشاهد الطلاب خلاله 14 مقطع فيديو بالترتيب نفسه.
قارن الباحثون نتائج المسوح، واكتشفوا أن نشاط دماغ المجموعتين يتشابه عند نشاط “شبكة الوضع الافتراضي”، وتنشط تلك المنطقة في المخ خلال أوقات الاسترخاء، والشرود الذهني، والتفكير في النفس.
لكن اختلف نشاط دماغ المجموعتين عند عرض أحداث تتضمن أفرادا آخرين، مثل الصداقات، ومتعة التواصل مع من نحبهم، فلم يتحفز مركز “نظام المكافأة” في دماغهم، وتلك المنطقة تنتج مشاعر المكافأة والمتعة، وتشجعنا على تحقيق الاحتياجات البشرية التي تحل الصداقة والعلاقات الأسرية فيها المرتبة الثالثة، وفق ترتيب “هرم ماسلو” للاحتياجات.
لذلك أوضح الباحثون أن الأشخاص الوحيدين يرون العالم من منظور فردي، مما يقلل شعورهم بفهم الآخرين لهم، وبالتالي يمتنعون عن الحديث معهم.
حاول الباحثون تفسير تلك النتيجة، وكان من الاحتمالات المطروحة أن من يشعرون بالوحدة لا يرون قيمة ولا متعة في المواقف نفسها التي يستمتع بها الآخرون.
لماذا عليك الخروج من عزلتك؟
تتفق نتائج الدراسة السابقة مع نتائج مراجعة بحثية أجراها باحثو علم النفس في جامعة كاليفورنيا وشيكاغو وهارفارد، بعنوان “الوحدة وسط الجموع”، لدراسات على مدى 20 عاما.
وأكد تقرير المراجعة أنه لم يعد ممكنًا اعتبار الوحدة حالة شعورية اجتماعية، بل ينبغي الاعتراف بأنها مسبب لأمراض عقلية وجسدية.
فالشخص العادي يقضي حوالي 80% من ساعات الاستيقاظ بصحبة الآخرين، ويفضل قضاء الوقت معهم على الوقت الذي يقضيه وحده.
ومع أن الشعور بالوحدة يمكن أن يكون عابرًا من وقت لآخر، إلا أن الفروق الفردية في مشاعر الوحدة وحدتها قد تكون لها تأثيرات واسعة على العلاقات الاجتماعية والعاطفة والسلوك والصحة الجسدية.
فمن الناحية السلوكية، عندما يشعر الناس بالوحدة، فإنهم يميلون إلى التصرف تجاه الآخرين بطريقة أقل ثقة، وأكثر عدائية.
ومن الناحية الصحية، تعرضهم الإصابة بالوحدة المزمنة إلى عدة أمراض مثل السمنة، والسكري من النوع الثاني، والإجهاد التأكسدي، وأمراض القلب، وضغط الدم.
وقد يعانون أيضا من ارتفاع نسبة الكوليسترول واضطرابات النوم، وربما دفعهم شعورهم بالوحدة إلى إدمان الخمر، وقد تظهر عليهم أعراض الاكتئاب أو ألزهايمر.
كيف تكسر حواجزك؟
تقول عالمة النفس بيلا ديباولو، مؤلفة كتاب “كيف نعيش الآن؟” (How We Live Now) إنه لا يتم تحديد الشعور بالوحدة بعدد الأشخاص في حياتك، بل بالمسافة بين ما تريده من علاقاتك، وما تحصل عليه.
قدم باحثو علم النفس والأعصاب طرقًا عملية لإعادة تدريب الدماغ على إقامة علاقات صحية ومحفزة، نسرد لك هنا أهمها:
قدّمت الطبيبة النفسية إيمي بانكس ملخصًا مبتكرًا لأبحاث علم الأعصاب، ولخبرتها في علاج مرضاها، في كتاب “مستعد للتواصل” (Wired to Connect).
وأكدت بانكس أن بعض الناس يشعرون بالوحدة لأسباب وراثية، نتيجة ضعف العصب المبهم، أحد أطول أعصاب الجسم، والمساعد الرئيسي في تنظيم تفاعلاتنا الاجتماعية، عن طريق تحفيزك على التفاعل أو التقوقع.
حفز الأطباء العصب المبهم لعلاج الاكتئاب والصداع العنقودي، وتؤكد بانكس قدرة الشخص على تحفيز هذا العصب بنفسه، من خلال مقاومة أفكاره الانعزالية، وإجراء محادثات قصيرة مع أي شخص لطيف يقابله، مثل البائع في المتجر أو سائق الأجرة.
وتعد تلك المحادثات القصيرة عملية إحماء لشد عضلاتك، قبل أن تنخرط في محادثات أطول وأعمق.
ربط الباحثون في جامعة “كينغز كوليج” بين العيش في مدينة مزدحمة والشعور بالوحدة، فجمع الباحثون بيانات من 756 مشاركًا، أكملوا 16 ألفا و602 تقييما بين عامي 2018 و2020، وأظهر البحث ارتباطا إيجابيا بين انخفاض مستويات الوحدة والعيش في قرى ريفية أو مدن غير مزدحمة، وتتوفر فيها مظاهر الطبيعة والخضرة، على عكس أولئك الذين يعيشون في مدن صناعية ومزدحمة، ولا يمكنهم استنشاق هواء نقي، أو التجول في الطبيعة.
قدّم قسم الطب النفسي في جامعة شيكاغو تقريرًا عن مفاتيح الخروج من العزلة. وقالت ستيفاني كاسيوبو، أستاذة الطب النفسي في الجامعة إن شعور الوحدة يجعلك تفسر الواقع بطريقة سلبية، وتكره ذاتك، لذلك قدمت طريقة للخروج من تلك الحالة، تعتمد أولًا على الاعتراف بشعورك بالوحدة، ثم تذكر أشخاصا لا تربطك بهم علاقة عميقة إلا أنك تحترمهم وتتمنى أن تكون صديقًا لهم.
أما آمي روكاش، أستاذة علم النفس الإكلينيكي بجامعة “يورك”، فتنصح بتخصيص 15 دقيقة يوميًا لتدوين لحظات حميمة قضيتها مع الأصدقاء والعائلة. سيساعدك ذلك على تذكر مشاعر الألفة والود مع الآخرين، بدلًا من إنكارها تحت وطأة الاكتئاب والتشاؤم.