أحمد الخليل – الناس نيوز :::
انشغلت الصحافة الألمانية (بيلد، زود دويتشه تزايتونغ، دير فيستن…) قبل عدة أيام بالاشتباكات العنيفة التي جرت في ولاية (شمال الراين فيستفالن)، وتحديداً في مدينتي إيسن وكاستروب روكسيل، بين مجموعتين من المهاجرين اللبنانيين والسوريين، وبحسب الشرطة في الولاية: (إن المجموعتين استعملتا السكاكين والهراوات والمناجل في الاشتباك)، كما قاد أحد المشاركين سيارته بسرعة إلى ساحة السيارات التابعة لأحد المحلات ودهس أشخاصاً كانوا مشاركين أيضاً في الشجار، وأكد المدعي العام في الولاية كارستن دومبير (أنه يتم التحقيق لمعرفة سبب هذا النزاع المفاجئ، حيث تم مهاجمة محلات سورية ولبنانية وأحدثت فوضى عارمة في وسط المدينة ووفاة شاب سوري). ما أدى لاعتقال أكثر من 150 شخصاً، ومداهمة الشرطة للعديد من المنازل.
ماجرى بين (الإخوة الأعداء) واقعياً حدث ما يوازيه افتراضياً في وسائل التواصل الاجتماعي، البعض أرجع المعركة لخلافات بين العوائل السورية واللبنانية على النفوذ والمنافسة، فوفقاً لصحيفة “دير فيستن الألمانية”: (بعض أفراد هذه العشائر يعانون من إدمان المخدرات أو يتاجرون فيها، ويواجهون تهماً بالاحتيال على الدولة الألمانية والحصول على مساعدات مالية بمبالغ طائلة).
وآخرون ينسبون ما جرى لأسباب شخصية، إذ يقيم بعض المشاركين في الشجار في نفس الشارع من الحي، بينما أرجع قسم آخر ممن ذهب الخيال بهم بعيداً المشكلة إلى تصريحات الصحفية اللبنانية نضال الأحمدية المناهضة للاجئيين السورين في لبنان، والتي كان من تجلياتها ملاسنة أدى لشجار بين عائلتين وإصابة امرأة سورية، ما دفع عائلتها للاستنجاد بأفراد العشيرة المنتمية إليها!
والسؤال الآن: ما الذي يدفع عدة عائلات تنتمي لعشيرة سورية أو لبنانية للجوء إلى العنف لأخذ حقها بنفسها عبر (الغزو) واستخدام الأسلحة البيضاء، لإيقاع أكبر أذى ممكن في الطرف الآخر؟
ولماذا لم يلجأ هؤلاء المتشاجرون للقانون والقضاء الألمانيين في حال كان هناك خلاف بينهما؟ فألمانيا بلد قانون والناس متساوون أمامه والقضاء مستقل، ولو أن الشجار جرى في سوريا أو لبنان لكنا وجدنا العديد من المبررات لعدم لجوء المتقاتلين إلى القضاء ومؤسسات الدولة!
دعونا نحاول الإجابة على السؤال المطروح أعلاه:
غالبية المهاجرين واللاجئين العرب والمسلمين الهاربين من بطش أنظمتهم السياسية وغياب العدالة، يحملون ثقافتهم ومنظموماتهم الأخلاقية والسلوكية معهم، وليس من السهل تعديل هذه المنظومة أو التخلي عن الجزء السلبي منها حين الوصول إلى بلدان اللجوء الغربية والإقامة فيها، وربما سيحتاج الأمر لأكثر من جيل لكي يتم التلاقح والتأثير والتأثر المتبادل بين منظومتين ثقافيتين مختلفتين تماماً.
وجزء مهم من هذه الثقافة أسس لها وكرسها الاستبداد، فخلال أكثر من نصف قرن غابت العدالة وسيادة القانون والقضاء النزيه المستقل، وبالتالي تزعزعت الثقة في مؤسسات الدولة، التي من المفترض أن تؤمن الحقوق لأصحابها وتحمي الناس بموجب القوانين النافذة وتسهر على تطبيقها.
السلطات أفسدت الإدارات والمؤسسات وعممت الفساد وتواطأت مع القيم والمنظومات الثقافية المنتمية لما قبل نشوء الدولة، كالثأر والانتماء العشائري والطائفي، وبالتالي أصبح الفرد لا يشعر بالأمان إلا من خلال انتمائه القبلي أو الطائفي أو العائلي، وكلنا يعرف تواطؤ السلطة في سوريا فيما يسمى (جرائم الشرف) فأي امرأة تتجرأ وتتزوج رجلاً من خارج طائفتها تنبري العائلة أو العشيرة أو القبيلة لقتلها لغسل العار الذي أصابها من تحدي امرأة لأعرافها، اذ يُمنح القاتل أسباباً مخففة لجريمته فينال عقوبة رمزية! ومن ناحية ثانية تحمي السلطة المقربين منها، فمهما ارتكبوا من جرائم وتجاوزات لا يطالهم القانون لذلك يستطيع سليمان هلال الأسد مثلاً قتل ضابط في الشارع، فيعاقب بعقوبة بسيطة ويخرج بعد أشهر من السجن ليكمل مسيرته في الإجرام! ويستطيع أي شخص من العائلات المتنفذة اغتصاب أي امرأة يريد، دون أن يتجرأ أحد على محاسبته. وكما هو معروف في سوريا يبحث المظلوم عن الدعم لدى مسؤول ما أو متنفذ ما أو واسطة ليحمي نفسه أو عمله، ففي حال تعرض أي مواطن لأذى أو لاعتداء على حق من حقوقه لا يلجأ إلى الشرطة أو القضاء والقانون، لأنه يعرف سلفاً أنه لن يأخذ حقه في حال كان الطرف المعتدي أقوى منه (مدعوماً) أو غنياً.
تكريس السلطة لهذه الثقافة خلال عقود طويلة أظهرها بأنها شيء طبيعي واقتنع غالبية الناس بمصطلحات الفساد والشطارة والفهلوية والاستهانة بالقوانين والأنظمة، وحتى الاعتقالات خارج القوانين من قبل أجهزة الأمن وسجن أي شخص لفترات طويلة دون محاكمة، أصبحت بنظر الناس عادية لا بل شرعية وقانونية، طبعاً بالتواشج مع تعميم الخوف والرعب، ودائماً ما كنا نسمع بعد اعتقال شخص ما (لولا مو عامل شي ما كانوا أخدوه)!
المهاجر المولود في هذه البيئة الموصوفة آنفاً، سيحمل معه بالتأكيد إلى بلاد اللجوء هذه الثقافة المشوهة وسيقاوم الثقافة المختلفة، ثقافة القانون والعدالة والمساواة والقضاء المستقل، فيمارس بعض المهاجرين كل ما يخالف القانون إن كان في العمل أو التجارة أو في مشاكله مع الآخرين، وخاصة بني جلدته! لا بل يعتبر تدخل الشرطة والقضاء في مشاكله اعتداء على خصوصيته وعاداته وتقاليده، كما هي الحال حين سحب بعض الأولاد من عائلاتهم بسبب ضربهم أو تعنيفهم أو عدم الاعتناء بهم، فهو يعتبر نفسه حراً في تربية أولاده وزوجته كما يشاء ويحلو له.
لكن هل الاستبداد والفساد هما وحدهما سبب هذه الثقافة المشوهة وتجلياتها في بلدان اللجوء؟
حاولت الحكومة الألمانية مع موجات اللجوء الكبيرة (2015 و 2016) توزيع اللاجئين على الأرياف والمدن بما يتناسب مع عدد السكان، لكن أغلب اللاجئين حاول بشتى الطرق الانتقال من مكان سكنه إلى مكان آخر حيث يوجد أقرباؤه وأفراد عشيرته أو ناس من دينه، فاللاجئ يخشى الإقامة بوسط اجتماعي غريب أو ذو عادات مختلفة ولا يشعر بالأمان إلا مع أقرانه المنتمين لنفس الدين ونفس اللغة والتقاليد، لذلك نشأت أحياء أو أبنية كبيرة لا يسكنها سوى مهاجرون أو عرب، وبدأت تنشأ غيتوهات كجزر منعزلة عن المحيط الاجتماعي والثقافي الألماني، وهذه الغيتوهات بدأت تترسخ منظوماتها الخاصة مع مرور الزمن، فلها أسواقها ومحلاتها وجوامعها ومشايخها، وهذا ما يفسر لنا أحد أسباب (إضافة لما غرسه الاستبداد في المجتمع) المشاجرات الجماعية التي تحصل بين حين وآخر في ألمانيا بين العشائر أو العائلات.
وهذا لا يمنع من وجود سبب آخر وهو عدم ترسيخ سياسات إدماج واضحة وتراخي السلطات والمجتمعات المستقبلة للاجئين أمام نشوء مافيات عائلية تمتهن الإجرام والسطو وتعاطي المخدرات والاعتداء على السلم الأهلي.
إذاً الثقافة المكرسة لدى المهاجر في بيئته الأصلية تكبح من استعداده للاندماج في المجتمع الجديد، وغالباً ما يقاومها بشكل عفوي، لخوفه من فقدان ما تعود عليه في بلده الأصلي وخاصة عدم ثقته بالقانون واحترامه له، أو إيمانه أصلاً بمؤسسات الدولة!