طارق علي – الناس نيوز ::
“ضربني؟، مرة؟، لا لا، ضربني مراراً، في آخر مرة ضربني بكعب بندقيته، فهو يفيض رجولةً لم تكن لتكتمل لولا السلاح الذي يزين وسطه، أقول، وأجزم، ومن سيعرفه أكثر مني، فأنا زوجته السابقة، بأنّه لم يطلق النار منه سوى في الاحتفالات، ولم يزر ميداناً أو جبهة، ولكن للأمانة كثيراً ما لقّم بندقيته بوجهي، مرّات كنت أظن نفسي إرهابية لكثرة ما اعتدت رؤية فوهة البندقية في وجهي، تهديداً أو تنظيفاً!”.
تقول سوسن فياض (29 عام) خلال حديثها مع “الناس نيوز”، وهي التي حصلت على حكمها طلاقها قبل نحو عام من الآن، سوسن تصف نفسها بضحيةٍ للتعسف الذكوري الذي أسهمت الحرب في تنميته اطراداً، مستدلةً على ذلك باستسهال القتل والتعنيف وانتشار السلاح.
المفارقة في قصة سوسن أنّها لم تتطلق إثر ما لقته من تعنيف على يد زوجها، بل لأنّها لا تنجب، “ببساطة هذا السبب، فرجلٌ يفيض ذكورة كزوجي لن يقبل ألّا يكون لديه أولاد يحملون اسمه وتاريخه العريق من بعده، لذا طلقني بعد أن أشبعني على مدار ثلاث سنوات قهراً وظلماً وتعنيفاً وإساءاتٍ”.
سوسن ما كان لها أن تعود لوالديها مطلقة في مجتمع لا يقبل تلك الفكرة، فكان أهلّها يحثونها على الصبر والتحمل فداءً لمنزل الزوجية “الذي دخلت إليه عروساً وستخرج منه إلى قبرها فقط”، هذا بالضبط ما قاله لي والدي في إحدى المرات التي التجأت فيها إليهم والدم يسيل من أنفي والزراق يلف عيني، تضيف الفتاة “المطلقة”.
ولكن في النهاية عادت سوسن إلى منزل أهلها مطلقة، تحمل فوق ظهرها عار الطلاق، وعار عدم الإنجاب، وعار شكواها المتكررة لمحيطها من القسوة التي كانت تلقاها، تقول: “كنت عبدة، لم أكن زوجة، لأتفه الأسباب كان يضربني، ويحقرني، ويشتمني، في مواقف لا تستحق حتى الوقوف عندها، فمثلاً مازلت أذكر جيداً كيف ضربني بالمنفضة الزجاج لأنّ الملوخيّة قليلة الملح، وقس على ذلك من مواقف”.
وتتابع: “بدايةً لفظني أهلي، ثم رويداً رويداً رضخوا للأمر الواقع، لم يكن أمامهم الكثير من الحلول، أنا الآن أفكر بالسفر، وبالمناسبة أنا خريجة جامعية، ولست عالةً على المجتمع كما كان يصفني زوجي، وكما يتصورني أهلي”.
وحول الأسباب الموجبة لحمل زوجها للسلاح، تقول: “حصل عليه عن طريق معارفه وربما بعض الدفع المالي هنا أو هناك، ومجدداً أقول إنّه ليس جندياً نظامياً أو مقاتلاً حتى، ولكنه كالطاووس حين يختال بمسدسه على خصره وبارودته قربه حين يقود السيارة وكأنّه ماضٍ للقتال في أوكرانيا، غريب!”.
هل تتحرك الشرطة؟
قصة سوسن واحدة من مئات القصص، وربما أكثر، التي تمزج بين العنف الأسري وانتشار السلاح، وعلاقة الاثنين ببعضهما، وقد يكون من الطبيعي أن يكون السلاح موجوداً بذلك الكمّ بين أيدي الناس عموماً في بلد طوى عامين فوق عقد من الحرب، ولكن يصير الأمر غير منطقي حين يصير ذلك السلاح وسيلةً لتهديد الأشخاص الآخرين، فكيف إذا كان هؤلاء الآخرون أفراد أسرة “البطل”؟
وليس ببعيد كمية الحوادث التي يقضي بها يافعون أو غيرهم نتيجة الاستخدام الخاطئ للسلاح المتروك في المنازل، أو خلال تنظيفه، أو اللعب به وتفحصه، وما إلى هنالك.
وفي الإطار لا شك أنّ القانون يتخذ عقوبات صارمة بما يتعلق باستخدام السلاح إذا كان الأمر مقروناً بشكوى شخصية (ادعاء شخصي عبر النيابة العامة أو قسم الشرطة)، ولكن يبقى أنّ هذا علاج إسعافي لمشكلة متجذرة تحتاج حلولاً على نطاق واسع تفضي في نهايتها لضمان أمن المجتمع من بعضه المتغوّل على الآخر، فكم من حادثة عهدها السوريون وكانوا ضحاياها حين ترفع في أوجههم البنادق على أرتال الخبز والمازوت والبنزين وخلال قيادة السيارة وفي المشاجرات البسيطة والكبيرة.
الجنون
جريدة “الناس نيوز” الأسترالية ، على سبيل المثال يستحضر قصة استخدم فيها مدير عام لإحدى الشركات المعروفة سلاحه الشخصي في وجه سائق آخر حاول تجاوزه في مدينة حمص قبل أعوام، يقول ضحية تلك القصة س. م: “لولا لطف الله لكنت قتيلاً يومها، والجريمة هي تجاوزي لذلك الشخص، والمفاجأة الأكبر أنّه مدير عام، وبعمره الخمسيني، وببزته الرسمية، نزل شاهراً سلاحه في وجهه، ولأنّه نافذ تمّت لملمة القصة بـ (تبويسة شوارب)”.
ذاك المثال ورغم أنّه يبدو اعتراضياً في سياق مادةٍ تتحدث عن العنف الأسري كأساس ولكنّه ضروري لتبيان خطورة (الفورة) التي تصيب هؤلاء الأشخاص، حاملي السلاح، وتجعلهم في لحظة أقرب للمجانين، الذين لا يراعون قوانيناً وضوابطاً فيتحول ذلك السلاح لنقمة يدفع ثمنها الطرف الأضعف، المواطن المثقل بهمومه، الزوجة، الجار، المجتمع كاملاً.
باعني أهلي لحماً
سما (اسم مستعار – 31 عام) لفتاة تقطن مع زوجها في دمشق، زوجها الذي لا تحبّه على ما تقوله، ولكنّها مضطرة لاعتبارات مجتمعية أن تتحمل، وعلى رأس تلك الاعتبارات أولادها الثلاثة، والمجتمع، وأهلها، رغم أنّها منذ تزوجت تتعرض للتعنيف.
“أتعلم ما أخشاه؟، حقيقة تعرف أين المشكلة؟، المشكلة أني اعتدت، اعتدت أن يضربني ويهينني أمام أولادي، لماذا سكر الشاي كثير، يضربني، لماذا القهوة دون وجه، يضربني، لماذا العشاء لم يجهز، يضربني، مع من تتحدثين على الواتس آب، يصرخ في وجهي، لا أتذكر من كل علاقتي معه سوى أنني أتعرض للضرب!”.
ما يحصل في المجتمع السوري ، يحصل في معظم المجتمعات العربية والنامية .
في إحدى المرات اشتكت سما على زوجها لقسم الشرطة، وأجريت لها خبرة طبية مرفقة بضبط شرطة وتقرير طبيب شرعي يفيد بحالتها، وألقي القبض على زوجها وأودع السجن، كان ذلك في عام 2017، ولكن حصل ما لم تكن تتوقعه، فهذه المرة لقيت تعنيفاً مضاعفاً، ولكن من والدها الذي انهال عليها بالضرب وأجبرها على التنازل عن الشكوى، تقول سما: “يقول والدي إنّه قبل يدي زوجي لئلا يطلقني وأن يقبل بإعادتي لمنزله، وبأن اللحم له والعظم لأهلي، وهكذا باعني أهلي لحماً، وها أنا ذا عظمٌ فعلاً، فهل بقي في العمر ما يستحق لأجلّه أن أعترض؟، هذا نصيبي من الحياة، وعليّ القبول بكل طاعة واستسلام”.
الأمم المتحدة قلقة
بحسب تقرير أصدرته الأمم المتحدة أواخر العام الفائت فإنّ تقديراتها أشارت لوجود حوالي 7 ملايين شخص، جلّهم من النساء والفتيات، يحتجن سريعاً لخدمات العنف القائم على النوع الاجتماعي.
وجاء في بيان مشترك صدر حينها عن المنسق المقيم للأمم المتحدة ومنسق الشؤون الإنسانية في سوريا، والمنسق الإقليمي للشؤون الإنسانية للأزمة السوريّة، “أن العنف القائم على النوع الاجتماعي لا يزال واقعاً مستمراً ومعيشياً في سوريا، ويتخذ شكل الإساءة الجسدية والجنسية والنفسية والاقتصادية”.
وقال البيان: “تواجه النساء والفتيات السوريات كل يوم قيوداً على الحركة وإمكانية محدودة للوصول إلى فرص العمل وخدمات الحماية والرعاية الصحية، وغيرها من المساعدات الحيوية”.
في القانون
حين الحديث عن العنف الأسري، فإنّ ذلك لا يقتصر على التعنيف بين الأزواج، بل يتعداه ليصل إلى حالات التعنيف العائلي عموماً، وضمناً ما يسمى بـ “جرائم الشرف”، وفي هذا الإطار كان قانون العقوبات السوري بمجمل تعديلاته ما قبل عام 2009 يجيز “العذر المحل”، وفق المادة 548 من قانون العقوبات، والتي تقول: “يستفيد من العذر المحل من فاجأ زوجه أو أحد أصوله أو فروعه أو أخته في جرم الزنا المشهود أو في صلات جنسية فحشاء مع شخص آخر فأقدم على قتلهما أو إيذائهما أو على قتل أو إيذاء أحدهما بغير عمد”.
وفي عام 2009 جرى تعديل على المادة تلك ليصار إلى حذف عبارة “العذر المحل”، وأبقي في السياق “العذر المخفف”، ليصبح نص المادة على شكل “ألا تقل العقوبة عن الحبس مدة سنتين في القتل”.
ولكن في عام 2020 جرى تعديل جديد للقانون وألغيت المادة بأعذارها المخففة، ليصبح المدان متهماً بجرم “القتل القصد”، ورغم ذلك هناك فتاوى طالت الأمر وتمكن محامون عدة من الاستناد إليها في تبرير جرائم موكليهم.
وفي هذا السياق يقول المحامي رضوان عرفات لـ “الناس نيوز”: “هناك المادة (192) التي تتيح تخفيف العقوبة إذا تبين للقاضي الناظر في الدعوى أنّ القصد وراء القتل كان أخلاقياً (بدافع الشرف) وهنا من الممكن أن يتحول الحكم باتجاه الحبس البسيط بدلاً من الأشغال”.
واللافت أنّ القوانين السورية لا تجرم بشكل واضح العنف الأسري، ولكنّها تدين بعض فصوله، كتلك المرتبطة بالسلوك الإجرامي والتي يمكن النظر بها أمام القانون مع ضرورة وجود البينة القانونية والادعاء الشخصي.
المنزل السجن
ولكنّ الأهم من كل ذلك، هو كم من امرأة مستعدة لتواجه العنف بالقانون، هذا ما لم يدخل حتى اليوم بشكله الموسع ضمن إطار الثقافة السورية العامة، الثقافة التي تحكمها العادات والأعراف والتقاليد والمجتمع ونظرة الناس، لتتكاتف جملة الأمور تلك فوق حقوق الضحية التي عليها أن تلتزم السكوت لتصون “منزلها”، ومنزلها ذاك، ليس أكثر وحشةً منه، حين يصير في لحظة قفصاً يجمعها بسجان يجيد لغة العنف أكثر من الحوار، في نتيجة نهائية يمكن إسدال الستار عندها، أنّه بين تلك الجدران ما بينها من آهات وتوسلات وقهر لن يعرف أصحابها طريقهم للخلاص إلّا بحلول يدفعون أبهظ الأثمان لأجلها، وهم الذين دفعوا سلفاً أثماناً باهظةً تبدت على أبدانهم شحوباً بعد أن نهشت في نفوسهم ألماً.