ميديا – الناس نيوز ::
تلفزيون سوريا – محمد برو – من معبر باب السلامة كان دخولنا في مطلع آذار المنصرم، وكان الطقس شديد البرودة.
كانت الوجوه بشوشة ومرحِّبة، على غير ما ألِف السوريون طوال أكثر خمسين سنة من حكم نظام الأسد.

ما إن عبرت بنا السيارة فضاء المعبر حتى كنا أمام مشهد يختلط فيه البؤس الشديد المطلّ من كل عين تنظر إلينا، وكل وجه شاحب، حتى بقايا البيوت والمحال التي لم يبقَ منها إلا أشباه أطلال تُشي بفداحة الخطوب التي عصفت بها. وعلى طول الطريق إلى حلب كانت بقايا أحياء سُوِّيت بالأرض، وبقيت بعض الجدران منتصبة كأنها حارسة الخراب وشاهدة على المجازر.
قبل وصولنا إلى مشارف حلب أشار لنا حاجز عسكري يعترض الطريق ويحوِّله لجهة اليمين، وحين اقتربنا أكّد أن الطريق المغلق ترصده قناصة تستهدف العابرين بشكل عشوائي.
هذه أول صفعة يتلقاها القادم من هذا الطريق وهو يتهادى بين راحات الأحلام الوردية؛ فقد سقط النظام لكن الخطر لم يزل بعد، وكنا مرغمين على الالتفاف عبر أحياء شطرها مهدم وشطرها منهك، عبثت به أيدي العابثين فجردته من كل ما يمكن سرقته وحمله، من حجارة صفراء نعرف بها أبنية حلب الفاخرة، وأسلاك الكهرباء ومواسير المياه والنوافذ والأبواب ومغاسل المطابخ والحمامات، وحتى بلاط الأرضيات لم يسلم من الأذى والتحطيم.
حين وصلنا مركز المدينة كان الناس يمشون بنشاط بادٍ، برغم الفقر والبؤس المتراكم لسنوات طويلة، والذي تفضحه رثاثة الملابس والوجوه الشاحبة والأعين الغائرة. بيد أن تلك الوجوه طَلْقة، تعلوها إمارات الفرح والدهشة، وكأنها تريد أن تنطلق من صاحبها إلى ناظرها فتمتزج بفرحه. كانت البضائع التركية المستوردة والعربات المتنقلة تملأ الأرصفة.
وفرة لم تشهدها هذه المدن منذ سنوات، لكن الجيوب خاوية.
مع هذا، كان الرضا بهذه الوفرة بادياً، فقد بات من الممكن الوصول إلى هذه السلع البسيطة ولكن بقليل من التدبير والتوفير، بعد أن كانت فيما مضى من سابع المستحيلات.
وكان حال المارة المبتهجين بهذه السلع الملونة والمبذولة على أرصفة الشوارع يقول بالحلبية الدارجة: “الجمل بقرش وما في قرش”.

في البيوت كان البرد لا يُحتمل، والوقود عزيز إن توفر، وإن توفر فلن تجد النقود اللازمة لشرائه إلا بشق الأنفس.
في المنازل التي زرناها كنا نرى ترميماً محزناً لما تهدم أو تخرب بسبب القصف أو عاديات الزمن.
وأينما التفتَّ تجد نافذة تحطم زجاجها فاستعاض عنه الساكنون بصفيحة من التنك أو قطعة من الكرتون المقوّى.
وهكذا حال السجاد الذي لم يُغسل منذ عشر سنوات، فالماء بالكاد يكفي للشرب والطعام وبعض ضروريات النظافة المقترَة.
الأحاديث تتواصل بلا توقف، كل من تلتقيه سيمطرك بحكايات أغرب من حكايات “السفر برلك”، حكايات مليئة بالألم والأسى والفقد والغرائبية التي تفجر فيك الضحك الهستيري رغماً عن قتامة المشهد.
لم تكن تلك الحكايات والأخبار بعيدة عن أسماعنا ونحن خارج البلاد، لكنك حين تسمعها من صاحبها، وتسمع الأم وهي تروي لك كيف سقط البرميل المتفجر بركن بيتها حيث تجلس وطفلتاها، وكيف قضت الكبرى في ساعتها بينما هي تحتضن الصغرى فرحة بنجاتها، وهي تحدثك وتعبث بشعر طفلتها الناجية.
وفي سهرات المقاهي ستكون ملزماً بسماع تحليلات المتحدثين المتحلّقين حولك، وستتكرر تلك الأحاديث بشكل حتمي، فكل من ستلتقيه سيحدثك وهو متيقن أنك لم تسمع مثل هذا الحديث من قبل، ولم يدر بخلدك شيء من فرادة تحليله، وكأنك كائن هبط لتوه من المريخ. من الصعب جداً على غير السوريين تخيل مثل هذه الأجواء التي تمتزج فيها الضحكة المجلجلة بالدمعة الطافحة حزناً وفرحاً.
أي مشهد سريالي هذا! كل بيت فيه شهيد أو مغيَّب أو مهاجر أو معاق.

عامة الناس فرحون لتدفق السلع من تركيا من دون جمارك أو ضرائب، والصناعيون غاضبون وحانقون لتسلُّم غرفتهم الصناعية أشخاصاً وطنيين لكنهم لا يمتلكون الحد الأدنى من الخبرات في عالم الصناعة وتعقيداته، علاوة على أنها بالأصل مؤسسة بجهودهم الذاتية وخبراتهم، وليست مؤسسة حكومية.
أيضاً يتضاعف الضرر اللاحق بهم بسبب هذا التدفق غير المنضبط للسلع المستوردة، والذي يدمر صناعتهم ويكدس البضائع الكاسدة في مخازنهم ويفرغ أرصدتهم التي تدفع أجور العمال والموظفين.
ولا ننسى ارتفاع أسعار الطاقة الباهظة، والتي ترفع الكلف وتحول دون أي قدرة على دخول السوق الذي تجتاحه السلع من الخارج من دون أية جمارك، وبأسعار لا يمكن منافستها، علاوة على ميل المستهلك إلى السلعة المستوردة المصنَّعة بشروط وظروف لم تتوفر في بلادنا في تلك السنوات العجاف.
الملفت للنظر والمثير للدهشة هذا الفارق الحاد في طبيعة المواقف والاهتمامات التي يضج بها الفضاء العام، بين ما نعيشه في فضاءات التواصل الاجتماعي، التي تملأ الدنيا صخباً وعنفاً وخطابات محمَّلة بالكراهية الطاغية، وبين اهتمامات الشارع اليومية، التي تتمركز حول توفير الدخل اللازم، والخبز اليومي، وعلبة الدواء، والكهرباء، والماء، ومقعد للأولاد في مدارس طالما كانت بعيدة المنال، ونظافة الشوارع.
الخارجون من السجون والمعتقلات تنبئك أجسادهم الناحلة ووجوههم الشاحبة، ونظراتهم التي لم تبرأ بعد من آفة الخوف الثاوي في خلايا الروح.
سيجيبك بعضهم إن سألته بحماسة بادية، وسيتلعثم كثيرون منهم لأنهم لم يعتادوا الكلام حول تلك المضائق الجهنمية من قبل، وهم متخوفون من اتهامهم بالمبالغة، لأن الحكايات أعجب من أن تُصدَّق.
ستكتشف ذلك البون الشاسع بين حكايات طالما سمعتها أو قرأتها، واستمطرت حزنك ودموعك، وبين نظرك المباشر لمن عاش تلك الحكايات وينزفها قصصاً وصوراً مروعة ممزوجة بأنفاسه وخلجات عينيه.

سيكون عقلك في لهاث لا يتوقف، يقارن اليوم بالأمس، فلا يستطيع الإحاطة الكافية بحجم الفوارق الفلكية.
كيف استطاع العبور من ذلك الجحيم؟
ثم لا يلبث أن يجري مقارنة بين اليوم وما كان مأمولاً أو متوهماً أن يحصل بعد سقوط النظام.
وبين هاتين الضفتين سنجد عشرات، بل مئات، المواقف المتفاوتة بين راضٍ وحالم وغاضب وساخط ويائس.
ويمكن تذكر التجارب القريبة مثل “تشيلي، رواندا، جنوب أفريقيا” وغيرها كثير، مما يسهل النظر إلى المرحلة الانتقالية بتفهم أكبر، مع ما تحمله من اضطرابات بسبب التركة الثقيلة التي خلفها نظام مبدع في إجرامه، وقدرته العابرة للحدود على تدمير الإنسان.



الأكثر شعبية


وقف إطلاق النار بين “قسد” وقوات وزارة الدفاع السورية في حلب…

بيرلا حرب ملكة جمال لبنان 2025
