د . غادة بو شحيط – الناس نيوز ::
يعيش الأدب على ما يبدو حالة تجدد، أو قطيعة مع تقاليد الكتابة النثرية على الأقل ذلك ما تؤشر إليه الأعمال الحاصلة على أهم الجوائز في الفترة الأخيرة، إذ يتحول الفضاء الحميم لمادة دسمة للتوظيف الفني، ضمن حدود المركزية الأوروبية والغربية تحديداً، التي يبدو أنها تبحث عما يزال يجمعها مع التجارب الإنسانية واجبة الحضور خارج حدود هذه المركزية.
قراءة من بين كثيرات يمكن أن تستخلص من نيل الفرنسية بريجيت جيرو لأهم جائزة أدبية في بلدها هذه السنة ( وكذلك تعتبر من أرفع الجوائز العالمية) ، إذ تعد الثالثة عشرة فقط من بني جنسها في تحصيل الكونكور، التي تأسست منذ 120 عاماً، أياماً قليلة بعد نيل مواطنتها الثمانينية آني إرنو للجائزة الأدبية الأهم عالمياً نوبل للآداب 2022، التي إن كانت سباقة لكتابة الحياة كما تسمي اللون الذي تنجز فيه رواياتها، من خلال نقل تفاصيل يومياتها كامرأة، فيبدو أن جزائرية المولد بريجيت جيرو قد طوعت كتابة الحميمي بأدوات فنية أكثر نضجاً، يكفي الاطلاع على العيش سريعا للتأكد.
لا تكتفي الرواية بسرد حادث موت زوج الكاتبة قبل ما يزيد عن عشرين عاماً، بل تؤرخ على هامشه لتاريخ فرنسا الاجتماعي الحديث.
ماذا لو؟
تداولت الكثير من التقارير التي تناولت رواية جيرو الحاصلة على آخر غونكور، عن تمحور الرواية حول تحقيق في حادثة مقتل كلود، والذي يمكن أن يحيل القارئ الذي لم يطلع إلى إمكانية انتمائها إلى لون الجريمة، خصوصاً وأن مطلع الرواية ينطلق من لحظة موت زوج الكاتبة بمدينتهما ليون، بالموازاة مع سفرها إلى باريس من أجل حل أمور تتعلق بإصدار روايتها الجديدة، ما يعطي احتمالا بوجود شبهة جنائية ستتبدد مع التقدم في الصفحات المئتين وثمانية، ليجد القارئ نفسه عاجزاً برفقة بريجيت أمام الموت الفجائي الذي خطف حبيبها وأب طفلهما تيو، الذي سيتيتم بعمر ثماني سنوات بالكاد.
هكذا ستستلهم جيرو وظيفة المحقق في افتراض ثلاثة وعشرين مقترحاً حتى يَسلَم زوجها. لا تناجي بريجيت أحداً، ولا تحكي احتمالات حزينة، بل تقدم تحليلات وتفسيرات معقولة أمكن لجميعها أن تحول دون موت كلود، تشترك جميعها في استحالتها. هي أشبه بحالة تطهر بالكتابة من العجز أمام الموت، ولكن بأدوات فنية عالية والبحث الذي يبدو واضحاً، كما التأني، بعيداً عن الكتابة السيرية التقليدية والكتابة المسطحة لليوميات، إذ هي كتابة روائية تستحق الاحتفاء والتأمل، وتعطي توظيفاً مستجداً ومميزاً للكتابة الحميمة.
إحالات فنية:
من يقرأ رواية جيرو سينتبه للكم الهائل من الأعمال الموسيقية التي ستحيل إليها، متطيرة من كلمات وأغاني تارة، وأخرى لتحكي تفاصيل صغيرة لفصل من حياتها برفقة زوجها الذي كان يعمل ناقداً موسيقياً ومولعاً بعالم الروك وفرقه الكثيرة. لكن الإحالات الفنية التي استلهمتها الكاتبة لم تتوقف هنا، إذ تشير إلى مقطع الموسيقى الذي ستستلهم منه عنوان عملهاvivre vite live” fast die young” للأمريكي لو ريد.
الرواية تتخذ من عبارة شهيرة تنسب للممثل الأمريكي جيمس دين يقول فيها العيش سريعاً، الموت شاباً، وتقديم جثة جميلة العبارة التي ربما ستجعل من الممثل الأمريكي أسطورة، هو الذي يملك ثلاثة أفلام بالكاد، منها ما يدور حول شباب الطبقات المتوسطة الأمريكية سنوات الخمسينيات التي ستصيبها لوثة الاستهلاك، ركضاً خلف آخر موديلات السيارات وأسرعها تماماً كما فعل كلود، الذي كان يعلم جيداً خصائص الدراجة النارية الخطرة التي امتطاها، ولقي حتفه عليها، كما فعل دين الذي توفي بحادث سير، وبسن صغيرة جداً تماماً كما كلود.
لكن الحقيقة أن العبارة لا تعود للممثل الأمريكي الحاصل على العديد من جوائز الأوسكار بعد وفاته، بل لأحد الأفلام التي كان بدوره شديد الولع بها، وهي اطرق أي بابknock on any” door” الصادر سنة 1949، والذي بدوره استلهم من رواية للكاتب الأمريكي أصيل شيكاغو، ويلارد موتلي تحمل العنوان ذاته.
الجزائر دائماً:
درجت وسائل الإعلام الفرنسية على الإحالة إلى الموطن الأصلي لبطل أي واقعة سلبية في حالة ما إذا ما امتلك أصولا غير فرنسية، في حين تشدد على النشأة الفرنسية ودور البلد في حالة كان البطل صاحب إنجاز مشرف. المثير في حصول جيرو على الغونكور هو تداول اسمها عبر الكثير من وسائل الإعلام الفرنسية الثقيلة، مرفقاً بذكر مكان مولدها، غرب الجزائر، بمدينة سيدي بلعباس تحديداً، سنة 1960 والمعروف ألا كاتب جزائرياً تحصّل على هذه الجائزة، رغم ترشح العديد من الأسماء لها كياسمينة خضرا، كمال داود ورشيد بوجدرة وغيرهم. على هامش الاحتفاء بأصول كاتبة الرواية، فقد جعلت جيرو من الجزائر الشخصية الحاضرة الغائبة في روايتها، أشبه بآلة موسيقية لا تكاد تسمع في جوق روك، لكن تستحيل جمالية اللحن وأصالته من دونها، هكذا سيختار كلود البيت الذي ستقنعنا بريجيت بأن عتبته كانت فأل شؤم عليهم لأنه يقع أعلى ربوة مثل البيت الذي غادره صغيراً، في أعالي العاصمة الجزائرية، كما أن ولعه بالدراجات النارية قد بدأ منذ تعلم ركوب الدراجة والتحكم فيها بسن صغيرة وقيادتها في بلد مولدهما.
لن تتوقف بريجيت هنا بل ستحيل على تفاصيل دقيقة قد تبدو مهملة، ولكنها مفتاحية إذا ما أخذنا العمل في مجمله، كعلاقة زوجها بالمغني الجزائري رشيد طه، اللذين ربطتهما صداقة قوية.
من النوبل إلى الككونكور يبدو الحميمي كلون فني عازماً على التبلور واختبار إمكانات الكتابة الروائية بكافة تنويعاتها، مثيراً النقاش والشجب أحياناً، خصوصاً في ظل الحصرية التي تمارسها النسوة عليه، ما يجعله عرضة للتساؤل حول مشروعيته وجدواه الفنية أضعاف، لكن يستحيل عمن قرأ رواية بريجيت جيرو الأخيرة ألا يتوقف عند الجدارة والاستحقاق التي نالتهما إحدى أهم الجوائز عالمياً.