ريما بالي – الناس نيوز ::
ينعاد عليكم بالخير وراحة البال
بما أننا في موسم أعياد مباركة، الكل يهنئ الكل، والأمنية الأهم والأعز تبقى دائماً: راحة البال.
راحة البال؟! هل أكون متشائمة إن عبرت عن إيماني بالحقيقة التي كشفت لي مؤخراً عن جزء من وجهها المخيف؟ الحقيقة التي تقول إن راحة البال هي أمنية شبه مستحيلة، لا تتحقق في الحياة الحقيقية للبشر الطبيعين، هي قيمة أسطورية وخرافية، وقد تشكل الأقنوم الرابع للمستحيلات الثلاثة: الغول والعنقاء والخل الوفي.
فما هي راحة البال؟ هي ببساطة حالة من الرضا والسلام الداخلي والقناعة، وهي من منظور آخر، الحالة المعاكسة للقلق والشك والخوف وقد تكون إن شطحنا أيضاً، حالة لا تنسجم مع الطموح والحلم والتحليل والتخطيط والتطوّر.
الإنسان الطبيعي، الذي يتمتع بذهن صحيح ومتكامل فيزيولوجياً، هو كائن مجبول على التفكير، نشاط الذهن هو إحدى علامات الحياة تماماً كنشاط القلب، والذهن يفكر طالما القلب ينبض، حتى في حالة النوم، لايتوقف الدماغ عن العمل كما لا يتوقف القلب عن النبض، فمتى إذن وكيف تتحقق راحة البال؟
يقول غوته: “أعمق موضوع في تاريخ الإنسان هو صراع الشك واليقين”.
والأسئلة التي تطرح نفسها هنا: هل يستطيع الإنسان أن يفرّ من هذا الصراع؟ أو هل الموضوع اختياري أم فطري؟ أوهل ينحصر التفكير والقلق بالفلاسفة والعلماء، والناس المبتلين بالمشاكل وضحايا المصائب، والعالقين في معضلات شائكة؟
الإجابة حتماً هي لا، فهذا الصراع هو غول يلوك الجميع بين فكّيه (الشك واليقين) في أثناء ممارستهم حياتهم الروتينية: العشاق، الآباء، تلاميذ المدارس، المراهقون، الرياضيون، الحرفيون، الفنانون والمبدعون. كل الشرائح والأعمار، من المعدم الذي يفكر في كيفية تأمين وجبة العشاء لأطفاله، إلى الثري التي تؤرقه حركة سوق الأسهم المالية، ومن الرضيع الذي يتعلم المشي ويخشى السقوط، إلى ربات البيوت في المطابخ: “هل رششت ملحاً أكثر مما يجب؟ هل يحتاج قالب الحلوى مزيداً من الخَبز..الخ.
الإنسان لا يحتاج قضية كبرى ليقلق ويفكر ويشك، الإنسان مخلوق فضولي بطبعه، وإن لم يكن عنده همّ شخصي، شغل نفسه بهموم الآخرين، لدرجة قد تحرم جفنيه الرقاد، ألم يقولوا: “من راقب الناس مات هماً”؟ ومن يراقب الناس؟ إلا الذي لا قضية عنده ليراقبها ويتابعها، يراقب الناس ليُسكت رغبة ذهنه في العمل والشك والقلق، فقد قالوا أيضاً: “الفاضي بيعمل قاضي”.
وإن كان الشك هو سوسة تنخر الروح، فهو أيضاً وعلى الرغم من ذلك، ملح الحياة وسبب استمرارها والمؤشر الذي يدل عليها.
هل ننسى ديكارت الملقب بأبي الفلسفة الحديثة، عندما شك في وجوده ووجود العالم الحسي، إلى أن أصبح شكه دليله إلى الوجود، فقال: “كلما شككت ازددت تفكيراً، فازددت يقيناً بوجودي”. واختُزلت النظرية في عبارة: أنا أشك إذاً أنا موجود.
أنا أقول بالمقابل (مع أنني لست أم الفلسفة الحديثة ولا ابنتها ولا حتى جارتها، لكن لاستعمال حقي في التعبير عن رؤيتي وفهمي للنفس البشرية) أنا موجود إذاً أنا أشك، ومن لا يشك، هو كيان مشكوك بوجوده، وكائن بشري ليس على قيد الحياة.
إذن، فللشّك، كما لكل القيم والحقائق والأشياء الموجودة في الكون، وجه آخر، إيجابي ومفيد وإن لم يكن جميلاً ومستساغاً، يقول فولتير: “الشّك وضع غير مريح، ولكن اليقين حماقة”.
لو رضي الإنسان الأول بوضعه ولم يقلق ويشك، لكنا ما زلنا نعيش في كهوف العصر الحجري، أو لكنا انقرضنا، إذ حاربتنا كائنات أقوى منا وأبادتنا.
أهم وأمتع المراحل في حياة الإنسان، يلازمها الشك والقلق كضرورة حتمية: الحب في بداياته، الإختراعات العظيمة قبل أن تنضج الفكرة إلى أن تخضع للاختبار، والإبداع عندما يخرج من فكر المبدع وروحه إلى المتلقي… الخ.
“يكون القارب آمناً أكثر عندما يرسو، لكن القوارب لم تصنع لهذه الغاية” يقول باولو كويلو، فهل خلق بال الإنسان ليرتاح؟
وهل يوجد ثمة شك مُحيي خلف صورة الشك القاتل؟
بيل مار الممثل الكوميدي قال: “السلوك الوحيد المناسب للإنسان أمام الأسئلة الكبرى ليس اليقين المتغطرس، بل الشك، الشك تواضع”.
الشك المُحيي هو الذي يدعم طموحنا ويساهم في تحقيق أحلامنا، هو الذي يحسّن أداءنا ويجعلنا نبدع ونطوّر ونبتكر، هو الذي يقرّبنا من حقيقتنا وحقيقة علاقاتنا مع المحيطين بنا، هو الذي يدفعنا لنعرف أكثر ولنبدو أجمل ولنصبح أصلب، هو الذي يحرّض خيالنا ويفتح لنا عوالماً أخرى، يفعل كل ذلك، على الرغم من احتفاظه بصفته الأساسية (كنظيره الشك القاتل): عداوته لراحة البال ومعاكسته لها، فلا يجتمع معها أبداً في فكر أو وجدان واحد.
الشك هو حمل ثقيل، لكن الأثقل منه هو انعدامه، تماماً كالقصة القديمة: “سأل الشاب أباه: ما هي أثقل أعباء الحياة يا أبي، فأجابه: ألا تجد شيئاً تحمله يا بني”.
وجدير بالذكر أنني أغفلت هنا عمداً الغوص في موضوع الشك المرضي، الذي يتجاوز كونه نشاطاً ذهنياً طبيعياً ليتطور أو ينحدر إلى هاوية سحيقة تصنف كأهم وأخطر الأمراض النفسية، وهو موضوع مختلف تماماً ومعقد، لن أتبحر فيه الآن وإن وجبت الإشارة إليه.
وبعيداً عن المرض الموجع وباتجاه المرض اللذيذ، وبطريقة مزخرفة ورومانسية، عبّر نزار قباني عن حلاوة الشك والنكهة التي يسبغها على ليالي العشاق حين قال:
كن في حياتي الشك والعذاب
كن مرّة أسطورة… كن مرّة سرابا
وكن سؤالاً في فمي… لا يعرف الجواب.
وكل عام وأنتم بألف خير … لسنين كثيرة محمّلة بالنجاح والحب، وعبر دروبهما الوعرة المزروعة شكاً محيياً وأسئلة خلّاقة… أما راحة البال… فبعد عمر طويل.