يُعرّف الفقه لغوياً بأنه المعرفة بالشيء والعلم به وفهمه. ثم تواضع الناس على إطلاق كلمة الفقه صفةً على العارفين بالشريعة الإسلامية، وتحوّلهم إلى مرجع في الأحكام الشرعية المستندة إلى الكتاب والسنة والاجتهاد والقياس.
ولا شك بأن الفقهاء قد تحولوا بعد زمن طويل من العصر النبوي إلى سلطة، وبخاصة في العصر العباسي.
وبعد الانشقاقات في الإسلام صار لكل طائفة فقهاؤها.
وسلطة الفقيه سلطة يستمدها من المقدّس، فهو فقيه في خطاب مقدّس من وجهة نظر المؤمنين. واعتراف المؤمنين بسلطة الفقيه يمنحه قوة التأثير عليهم. وكما صار للعسكر لباس خاص بهم؛ صار لأغلب الفقهاء، في كل الطوائف، لباس خاص بهم أيضاً.
ولأن الفقيه سلطة؛ بذلت السلطة السياسية الإسلامية جهدها لاستمالة الفقهاء إلى جانبها، وجعل الكثيرين منهم البوق الإيديولوجي لها، وصارت الدعوة للحاكم من على منابر خطب الجمعة تقليداً شبه عام. وكان مصير من رفض هذا الدور مصيراً سيئاً.
تكتب بعض الأقلام خبثاً أو سذاجة بأن العلة الحقيقية وراء واقع الحال العربي هم الفقهاء، والخطاب الديني الذي يصدر عنهم بوصفه خطاب تعصب ونفي للآخر.
أن يكون الخطاب الديني في بعض أشكال حضوره الآن خطاب عنف ونفي للآخر وضد العلم؛ فهذا مما لا شك فيه أبداً. ولكن هل الدكتاتوريون الذين دمروا البلاد والعباد هم الفقهاء، أم إن هؤلاء يسعون للهروب من الحقيقة؟
لا، لم يكن أحد من الدكتاتوريين الذي دمروا البلاد والعباد فقيهاً، الفقهاء أقل خطراً، بما لا يقاس، من أصحاب النجوم الصدئة من العسكر المتخلف.
هل كان القذافي ابن قرية سبها، وصالح ابن بيت سنحان، والأسد ابن القرداحة، ومبارك وبن علي وبوتفليقة والبشير فقهاء؟ سيقول بعضهم: لقد استعانوا بالمفتين والشيوخ لتبرير سلطتهم. نعم هذا صحيح، ولكنهم هؤلاء لم يشكلوا يوماً العنصر الأمني والعسكري والمؤسسي، ولم يكن لهم فاعلية في بقاء الدكتاتوريات.
من يظن أن الشيخ كفتارو والأب زحلاوي والشيخ عبد الرحمن الخير وشيخ العقل الحناوي والرب ساجي المرشد والأغا خان هم من أسسوا لديكتاتورية الأسد، فإنه ليس على دراية بالشروط والأسباب التي تقف وراء الدكتاتورية أبداً. وبالمناسبة كل هؤلاء فقهاء.
إن هذا الرأي ليس تبرئة لفقهاء السلطات من العاملين في وزارة الأوقاف ومؤسسة الإفتاء، وفجورهم اللاعقلاني في تأييد الدكتاتور، ولكن جعل علة الخراب قائمة في حضور الفقيه ودروس التربية الدينية؛ هو تبرئة مقصودة للدكتاتوريين الكاريكاتوريين، إن لم يكن أكثر من ذلك. إن هؤلاء لهاربون من الحقيقة تحت غطاء زائف. فالدكتاتور يمثل دور المحافظ على الدين، ويمنح المؤسسة الدينية فوائد كثيرة، لكنه لا يتعامل معهم إلا بوصفهم أبواق قول إيديولوجي.
ولهذا؛ فإن شرط التحرر من فقهاء السلطان هو التحرر من السلطان نفسه. فلا خلاص لهذه البلاد إلا بالدولة العلمانية-الديمقراطية، أي بتأسيس الدولة وإنتاج السلطة ديمقراطياً، وفق دستور يؤكد المواطنة الحرة والحق والمساواة والقانون المدني. يجب قيام سلطة الدولة بديلاً عن دولة السلطة.
لا للدكتاتوريات عسكرية كانت أو دينية، لا موقف في الوسط. من هو ضد الاستبداد الديني يجب أن يكون ضد الاستبداد العسكرتاري، ومن هو ضد الاستبداد العسكرتاري يجب أن يكون ضد الاستبداد الديني.
وفي الأحوال كلها؛ من الدجل أن تشتم فقيه الآخر وتقبل يد فقيهك. كيف يمكن أن تكون مع دولة ولاية الفقيه وضد دولة الخلافة؟ يجب أن تعلنها بصراحة: لا للدولة الدينية، لا للدولة الطائفية، لا للدولة الدكتاتورية العسكرتارية، لا للدكتاتورية بكل أشكالها. نعم للدولة الديمقراطية المدنية العلمانية المواطنية، التي إذا ما تحققت فعندها لن تكون السلطة، أية سلطة، بحاجة إلى فقيه يبرر سلوك الطغاة.