حوار ليندا بلال – الناس نيوز :
شذى حايك ابنة مدينة السلمية. أدهشتها دمشق بكامل تفاصيلها… حجارة حاراتها الضيقة. أصغت لهمساتهم يتداولون حكايات وقصص العاشقين والعاشقات. لفحتها عند زوايا البيوت القديمة رائحة الرطوبة والبرودة. نسوة ورجال يفترشون مصاطب بيوتهم. باعة البسطات يعرضون حبهم بين الخضار المحملة بالشمس. باب توما سلمها لباب شرقي. احتضنتها القيمرية وأوصلتها إلى بوابة الحميدية ومنه إلى البزورية. غرقت في نشوة الأصوات المتداخلة. دخلتها بعيون الدهشة قادمة من مدينة السلمية. احتضنتها دمشق كأم حنون ترسم الفرحة على شفتيها كلما أصابها السأم . أعطتها مفاتيح الحب والغناء. فباتت شذى حايك تخاف على دمشق كخوفها على ابنتيها.
تتابع أخبارها من منزلها الجديد في هولندا. يعتصرها الحنين إليها. ترعبها فكرة العودة لتكتشف كم تغيرت مدينتها الحنون. يوم تصير لاجئاً تحيا طويلا في الذاكرة. ودّعت شذى دمشق. تركت وراءها مسيرة فنية طويلة. وصلت هولندا لتنبت في أرضها الخفيضة الخصبة.
لم تنشأ الحايك في عائلة فنية لكنها عشقت الغناء منذ الصغر. اقتصر صوتها على حفلات الأقارب والأصدقاء. ترجع شذى بذاكرتها مع “الناس نيوز” إلى مرحلة الدراسة الإعدادية والثانوية في سوريا. كانت تكتب كلمات الأغاني الطربية الطويلة ثم تحفظها حبا في غنائها والتمرين عليها لاحقا. لم تعلم أن الطفلة سوف تكبر في أحضان نبوءة الفن التي بدأت بدعم عائلتها لموهبتها آنذاك. تدخل عالم الغناء من بابه الأكاديمي.
بدأته بمعهد إعداد المدرسين للموسيقا في دمشق. ثم درّست الصولفيج بمعهد صلحي الوادي. “كنت عضوا في الأوركسترا الوطنية. أحييت العديد من الحفلات في دار الأوبرا بسوريا. سافرت إلى أوروبا كسفيرة لـ “الغناء الأكاديمي أو فن المسارح” كما أحب أن أسميه” تقول حايك.
تسترسل شذى في بوحها لـ “الناس نيوز”: “جئت إلى هولندا أواخر عام ٢٠١٤. كنت أقطن في غرفة بالكامب، يوم زارني شخص هولندي الملامح، شاهدني على وسائل التواصل الاجتماعي. قدم لي عرضا للتعاون الفني، فوافقت. يومها كنت أتابع أصداء أغنيتي “هذي الشآم” التي صورتها قبل خروجي من سوريا. شعرت بثقل المنفى بداخلي. أعدت الأغنية مرات ومرات. كانت عزائي لحنين لم أدرِ أنه سوف يطول. اخترت العمل مخرجا لغصة فراقي عن دمشق.
بدأ عملي في هولندا بمشاركتي الأولى مع برنامج ”
vrij geluiden” في “البيم هاوس”. غنيت يومها مع فرقة هولندية ثم وصلتني عروض الحفلات ومنها مهرجان ”
music meeting
سنة ٢٠١٥. أحييت مع فرقة ” R_chestra” الهولندية الكثير من الحفلات داخل هولندا. قابلت فرقة أوركسترا “Jaz art” التي شهدت معها نجاحاً كبيراً وكل ذلك بصحبة الموزع الموسيقي الشهير
” Marten Fondse”، شاركت في الغناء بحفل مدينة ليواردن عاصمة الثقافة الأوروبية ” Leeuwarden Culturele Hoofdstad van Europa”
تعتقد حايك بأن “الألحان الشرقية سفيرتي إلى الجمهور الهولندي. الجمهور الذي أصغى بعناية لصوتي. سنة ٢٠١٥ قدمت أغنية باللغة الهولندية للفنانة الهولندية “كلوديا ديبراي”. وكانت خطوة جريئة في وقتها. يومها لم أتقن اللغة بعد، لكن أحببت التحدي. اليوم أرى أنني كنت بحاجة لقول “أنا هنا”. وصلتني الكثير من الرسائل الداعمة. اختلفت لغة الرسائل المحفزة هنا عن دمشق. يلتقط إعجاب الناس في سوريا من لفتة أو حتى من صرخة “الله”. كلمة أو لفتة نعبر بها نحن الشرقيون عن وصول الطرب إلى أعماقنا.
أما هنا فالناس تعبر برسائل تحكي تجارب تماثل تجربتك. هدأت روحي رويدا رويدا، أنا الغاضبة من خروجنا الكبير نحن السوريين وبات المنفى أرضا خصيبة للإنبات”.
ينقطع صوت حايك لتبتعد أحجار عينيها بعيدا كالمستذكر لصور من زمن غابر. ثم تتابع: “رافقتني غصة الحنين إلى بلدي الأم سوريا في كل حفلاتي. أغني لها ومعها. أحبس غصتي كي أقف على قدميًّ من جديد في بلاد جديدة لا ترحم المقصّر. لدي ابنتان زين ١٢ سنة وزهر ٩ سنوات. أحاول التوفيق بين دوري كأم وتأمين متطلبات حياة كريمة لهما وعملي كفنانة. ادندن لهنّ كجمهوري الأول. أحب أن اترك لهن تركة فنية جيدة، لكني لا أصادر أحلامهن. لكل منهن اختياراتها في الحياة التي أحترمها كما احترم أهلي سابقا شغفي بالفن والغناء”.
هل حقاً نجونا!
تنخفض نبرة شذى كمن عاد من حرب في الذاكرة قبل أن تتابع: “لا تغيب الأحداث في سوريا عن ذهني أبداً. أشعر أنني عاجزة عن المضي قدما طالما أن بلدي ليست بخير. أتابع الأصدقاء في سوريا وما يكتبونه. أصرف يومي بحثا عن أخبارها على وسائل التواصل الاجتماعي وما أكثرها تلك الأخبار. أخجل من نشر يومياتي وهناك من هو جائع في سوريا. أشعر بالتقصير الدائم تجاه المكلومين والعاجزين عن المضي في حياتهم دون أي مقومات.
نحن الناجين علقنا في عقدة الذنب تجاه من بقي فيها. أبحث عن أمل للناس التي تعاني الأمرّين. أشعر أنني ما زلت أقطن تلك البقعة الجغرافية. أخاف عليها خوفي على بناتي وأتمنى لها الأمن والسلام.
لا تثق حايك بالفنان الذي يغني للحاكمين. “الساسة ذاهبون والأغنية باقية. ليس من واجب الفنان الغناء لرئيس أو حاكم. أتفهم أعذار الغالبية منهم. أعلم الضغط الذي يعيشه الفنان في بلاد تحكمها الوساطات والمحسوبيات”. بحسب تعبيرها قبل أن تعود إلى سوريا. “أنطلق من حنيني لدمشق، أبحث عن عمل جماعي يرمم ما فاتنا نحن الفنانين في المهجر.
كانت هناك العديد من المحاولات لكن أعتقد أننا جميعا متعبون من الداخل. نحتاج الوقت الكافي كي نتصالح مع ذاكرتنا أولا ثم نذهب تجاه خيار يشكّلنا على هيئة مجموعات فنية وإبداعية. لدينا طاقات هائلة باتت اليوم في المنفى. أحلم أن يلملمنا التعاون فيما بيننا. لكن ما أراه أن عقلية الشللية والمحسوبيات ترخي أسدالها علينا جميعا. ربما من المبكر الحديث عن بناء الثقة بيننا نحن السوريين من جديد. ما حدث ليس بالقليل”.
لا تعتقد حايك أن المشكلة بالعمل الجماعي تنتهي عند ما سبق إنما “ينقصنا الأدوات وشركات الإنتاج غير المسيّسة. الواقع ليس وردياً وكل شركة إنتاج لها شلّتها وسياساتها في انتقاء الفنانين. ما يحمينا اليوم إيماننا بأنفسنا وبعضنا البعض. تعلمت من غربتي ومن الفنانين الأوروبيين التواضع والمحبة وتعاملهم مع الفن بقدسية عالية، وتقديرهم للموهبة حق قدرها”.
تختم حايك: “الفنون تسمو بالأرواح. كسوريين لدينا نجاحاتنا الفردية والمتفرقة. ماذا لو اجتمعت؟ عملت بداية على تشكيل فرقة سورية مع الفنانين السوريين في أوروبا لكن الظرف العام وكوفيد١٩عطّل المشروع لوقت أتمناه قصيراً. كذلك الأمر مع مشروع افتتاح معهد تعليم موسيقي للصغار والكبار في هولندا الذي أتوقع انطلاقه قريباً. في هذا الوقت أعمل على أغنيتي الجديدة “بكير” من كلمات بشار الحسين وألحان يوسف باش وتوزيع نزار تارك. هذه الأغنية لجميع الأطفال والشباب العرب الذين يعيشون زمنا ضاق بالكبار فكيف بأطفالنا؟.