علي عبد الله – الناس نيوز :
مع حلول القرن التاسع عشر تبلور عصر الرومانسية أو الرومانتيكية(Romanticism) ، نتيجة للثورة الفرنسية التي اندلعت في عام1789 ونجاحها الذي غير معالم الدنيا واستبدل المفاهيم السائدة ونقلها إلى صيغ جديدة تنسجم مع تطلعات الشعوب في كسر القيود والانطلاق إلى الحرية، بعد أن اجتاحت في طريقها مجموعات من النظريات التقليدية القديمة البالية وسحقتها.
تعد الرومانتيكية أهم حركة ثقافية ظهرت في أوروبا بعد المدرسة الكلاسيكية وتزمتها، لأنها وبما تحمله من مبادئ يسرت للإنسان فرصة المطالبة بحقوقه؛ وارتبطت بالتاريخ والحياة الإجتماعية، لذلك تمتعت بروح جديدة أصبحت تسيطر من خلالها على مشاعر الإنسان وآرائه، ومهدت بذلك للثورات وعاصرتها.
لقد كان النتاج الرومانتيكي عبارة عن صورة صادقة للاتجاهات الجديدة التي تعبر عن آمال المجتمع بالروح الفنية والضيق بالواقع والمطالبة بالحرية، والبحث عن السعادة في عالم الخيال والأحلام.
لم تكن الحركة الرومانتيكية منفصلة عن المجتمع بكل ما فيها من مزايا وخصائص جديدة، بل كانت وثيقة الصلة به، وجزءاً هاماً ومؤثراً في حركة الحياة في أوروبا، وبشكل خاص في ألمانيا وفرنسا.
وإذا كان العصر ينطوي على أهم مرحلة في تاريخ الفن وتطوره، فإن الرومانتيكية بوصفها ظاهرة أيديولوجية لم تقتصر على نوع معين من الفنون، بل تجاوزتها إلى مجالات حضارية وثقافية أخرى، إذ لم تترك الرومانتيكية مجالاً من مجالات الحياة إلا وتغلغلت بين مكوناته وأثرت فيه تأثيراً واضحاً وفاعلاً.
بدأت الرومانتيكية تأخذ مكانها في تاريخ الفكر الإنساني على أنقاض الكلاسيكية، وتسللت روح هذا العصر إلى كل نواحي الحياة من خلال سلسلة من الأحداث المتعاقبة في الأدب والفن التشكيلي، وفي الموسيقى التي تمثل أقوى تعبير للرومانتيكية وخصائصها(١).
يرتبط التعبير في الفنون الرومانتيكية بالأدب والشعر وخاصية مدركة كالطبيعة والبيئة بما يوحي بفكرة أو حكاية أو منظر، مع مراعاة عدم الالتزام بالقوالب المتزمتة الثابتة،( وقد يبلغ أحياناً إلى حد التضحية بكل القوالب من أجل إظهار الفكرة أو الموضوع)، على وفق الإطار الفردي( الذاتي) الذي يتيح للفنان الرومانتيكي التعبير عن رغباته ودوافعه الشخصية وأحاسيسه وأفكاره المعبرة عن المجتمع وتطلعاته.
لذلك تعد حرية التعبير إحدى أهم خصائص الفن الرومانتيكي الذي اقترب من الجماهير العريضة للشعب وشرائحه، واستمتعت به بعد أن كان حكراً على الطبقة الأرستقراطية وصالوناتها.
على الرغم من صعوبة الوصول إلى حد فاصل بين العصور، إلا أن المؤرخين يرجعون تاريخ الرومانتيكية إلى يوم 7 أبريل 1805، ذلك اليوم التاريخي الذي عرضت فيه سمفونية بيتهوفن الثالثة( Eroica )، التي كانت تمجد الثورة الفرنسية وأبطالها، وتؤكد على أثر الفكرة الموسيقية وصياغتها في التحول إلى صيغ البناء الرومانتيكي وخصائصه (٢)*.
انطلقت معالم الرومانتيكية إلى جميع مفاصل الفن التشكيلي حيث أصبح اللون والحركة يثيران الذهن ويعبثان بالعواطف، فظهرت ملامح الرومانتيكية ودلالاتها على الرسم والتصوير والنحت، التي تسامى فيها الفنان متجاوزاً طبيعة استخدام اللون وعلاقته بالموضوع، فتألق الفنان بخياله الذي أصبح هو الفعل الفاعل في موضوع المنجز الفني وتصميمه.
يعد الفنان الفرنسي ( ديلاكروا) أحد الفنانين المعبرين والناطقين عن روح الرومانتيكية ونهجها، ففي روائع لوحاته التي عبر فيها عن تطلعاته وترجمته لمعنى الحرية وانتصارها على قيود الفكر البليد وكسرها.
( نساء الجزائر) و ( سلطان المغرب) هما من لوحاته الشهيرة ضمن التراث العالمي المحفوظ في متحف اللوڤر، لكننا نقف عند لوحته الأثيرة الخالدة (الحرية تقود الشعوب)( Liberty Leading The People )، أنموذجاً للفن المعبر عن الرومانتيكية، التي أنجزها في عام 1830وضمنها بوحدة الموضوع، ورموز الثورة والتضحيات والانتصار واحترامه للمرأة وإجلالها.
وإمعاناً في الخيال وتحقيق الحلم؛ فهو يجمع ما بين الآلهة ( ماريان) رمز الحرية، مع المرأة التي أصبحت نموذجاً تفخر به الرومانتيكية وتمجده.
يظهر جلياً تأثر ( ديلاكروا ) بفنون الشرق، حيث عاش طويلاً في المغرب العربي، وتحديداً في الجزائر، وتكاد مقولته الشهيرة أن تلخص حجم تأثره بسحر الشرق وغناه، حيث يصف فيها بلاد المغرب العربي وجمالها بقوله:”عند كل خطوة هناك لوحات جاهزة للرسم”(٣).
على الرغم من طبيعة التداخل بين العصور وفصول الحياة المتشابكة مع تلك العصور، ومثلما كانت الرومانتيكية متواجدة في روح ونتاج بعض الفنانين في العصر الكلاسيكي، كذلك فإن الكلاسيكية لازمت بعض الفنانين الرومانتيكيين ونتاجاتهم، وخير مثال على ذلك؛ مؤلفات العبقري (بيتهوفن) الموسيقية التي لازم فيها العصرين وأبدع بهما، فبعد أن كان عموداً من أعمدة الكلاسيكية وعنواناً لها، أصبح ممهداً للرومانتيكية ومفتاحاً لأبوابها.
يتبع
———————-
(١) ألفرد أينشتاين، الموسيقى في العصر الرومانتيكي، ص14.
- ( Ludwig Van Beethoven)، 1770-1827.
( Eugene Delacroix )، 1798-1863
(٢)يوسف السيسي، دعوة إلى الموسيقى، ص21.
**كان (بيتهوفن ) قد أعجب بقائد الثورة الفرنسية إعجاباً يفوق الوصف، وهو الحافز الذي دعاه إلى تأليف هذا العمل السيمفوني، لكنه فوجئ بإعلان ( نابليون بونابرت) وتنصيب نفسه إمبراطوراً، فنحا سجل الموسيقى( Score )جانباً، ورفض تقديم العرض، غير أن محبيه والمقربين منه طالبوه بتغيير قراره من أجل جمهوره الذي ينتظره بشغف، فاستجاب لهم بعد تغيير عنوان السيمفونية إلى البطولية.
***زخر العصر الرومانتيكي بأشهر وأعظم المؤلفين للتراث الموسيقي العالمي، أمثال: بيتهوفن، برامز، شوبان، شومان، شوبرت، تشايكوفسكي، ليست، وفاجنر، محققين أهم إنجازات العصر في مجال الموسيقى الدرامية ذات البرنامج التصويري.
(٣)ينظر، سعيد محمد توفيق، ميتافيزيقيا الفن،ص67.