[jnews_post_author ]
السابع عشر من كانون الأول/ديسمبر 2010، وفي سوق شعبي مكتظ بمدينة سيدي بوزيد التونسية صرخ المواطن محمد البوعزيزي متألماً قبل أن يشعل النار في نفسه، ليكون بذلك المصاب رقم صفر بفيروس خطير سينشر الرعب في مفاصل الأنظمة العربية جميعها وسيعرف لاحقاً بالاسم العلمي: Freedom-11. لم يدرك النظام التونسي حينها طبيعة الشيء الذي يتعامل معه، كانت سرعة الانتشار وإمكانية العدوى أكبر من أي إجراءات وقائية معروفة، وفي 14 كانون الثاني/يناير من عام 2011 أعلن الرئيس التونسي زين العابدين بن علي الاستقالة أمام عجزه عن الحد من انتشار العدوى والارتفاع الجنوني في معدلات الإصابة. ومن تونس إلى مصر حيث اكتشفت السلطات بؤرة كبيرة للفيروس في مدينة السويس في الخامس والعشرين من كانون الثاني/يناير 2011، وحاولت عبثاً تطويق المصابين ومنع نقل العدوى، وبعد 18 يوم فقط وجد الرئيس حسني مبارك نفسه مجبراً على الاستقالة هو الآخر بعد عجزه التام أمام الانفجار المخيف في عدد الإصابات. وهكذا وخلال شهر واحد تقريباً أطاح Freedom-11 باثنين من أعتى أنظمة المنطقة.
أثارت هذه التطورات المفزعة ذعر الأنظمة في الدول المجاورة التي سارعت إلى إعلان الفيروس وباءً عالمياً، وأغلقت حدودها ووسائل التواصل الاجتماعي المختلفة خشية انتقال العدوى إليها، ودعت الدول العربية إلى اجتماعات مكثفة لمعرفة كنه العدو الغامض. ورجّحت إحدى النظريات أن يكون الفيروس صنيعة أجهزة المخابرات العالمية، وقد تم تحضيره في أحد المختبرات الأجنبية ونشره بشكل متعمد في المنطقة؛ إلا أن دراسات أخرى أكدت أن الفيروس كان طبيعياً تماماً ولا أثر صناعي فيه، وأنه ناتج عن الظروف غير الطبيعية في سوق سيدي بوزيد حيث تجمّع الفقر والقهر والكبت والقمع وشكّل الإذلال المرحلة الفاصلة في انتقال الفيروس إلى البشر، ودلّل البعض على صدقية نظريته بالعديد من الدراسات والتقارير الحقوقية والإنسانية التي حذرت سابقاً من ظهور الفيروس إن لم تسارع الأنظمة إلى تخفيف وطأة القمع وتحسين الشروط المعيشية وفتح سقف الحريات. واتفق الجميع على أن الفيروس ينتقل بالتنفس والرؤية والسمع، ولديه معدلات إصابة عالية جداً، ويصيب الشباب أكثر من أي فئة عمرية أخرى، ولديه فترة حضانة طويلة قد تمتد لعشرات السنوات، بل إنه قد ينتقل من الآباء إلى الأبناء. ولم تنفع معه العلاجات التقليدية المعروفة كالخطب الرنانة والوعود البراقة وحلقات الدبكة والأعياد الوطنية.
وكما اختلفت الأنظمة العربية على أصل الفيروس اختلفت أيضاً على طريقة مواجهته، حيث اختارت بعض الأنظمة أن تدعم مناعة مواطنيها من خلال زيادة الإنفاق على الرفاهية ورفع الرواتب وتحسين الظروف المعيشية وكانت في معظمها من الأنظمة التي رأت أن الفيروس تطوّر طبيعي، في حين اختارت الأنظمة التي رأت أن الفيروس مؤامرة مصنعة في مختبرات أجنبية المواجهة، وعملت على زيادة الإنفاق على الجهات المختصة، وفرض سياسة التباعد الاجتماعي وتكميم الأفواه ومنع التجمعات للحد من العدوى والحجر على المصابين.
أشهر قليلة مرت على تلك الاجتماعات وكان الفيروس قد وصل إلى جميع الدول تقريباً، نجحت سياسة زيادة الإنفاق على الرفاهية ورفع الرواتب وتحسين الظروف المعيشية في تخفيف أضرار الفيروس والحد من انتشاره بشكل ملحوظ مع بقاء إمكانية الانفجار في عدد الإصابات قائمة في أي لحظة. أما الدول التي اختارت المواجهة فكان لها شأن آخر.
حيث سقط النظام الليبي بعد أشهر من المواجهة مع الفيروس، وفي 20 تشرين الأول/أكتوبر 2011 تمكن الفيروس من العقيد معمر القذافي الذي خرّ صريعاً بعد أن تمّت ملاحقته زنقة زنقة دار دار. وقبل ذلك بأشهر كان Freedom-11 قد وصل إلى سوريا التي كان نظامها أميل إلى نظرية المؤامرة فيما يخص أصل الفيروس، وعلى عكس ما أكدت العديد من الدراسات العالمية من أن الفيروس لا يصيب الأطفال؛ فإنه في سوريا ظهر أول ما ظهر بين مجموعة من الأطفال جنوبي البلاد في 18 آذار/مارس 2011. وسارعت السلطات السورية إلى الحجر على المصابين. ولكن وكما كانت الحال في المرات السابقة جميعها، كانت الخطوات متأخرة، حيث كان الفيروس قد انتشر بالفعل وتمكن من الكثير من المواطنين.
أصيبت السلطات السورية بالتخبّط، فحاولت بعد شروعها في المواجهة أن تعود إلى أسلوب زيادة الإنفاق ودعم الرواتب والمعيشة، ولكنها سرعان ما عدلت عن ذلك لتقرر مواجهة الفيروس، وتلخّصت الخطة السورية بفرض التباعد الاجتماعي، وإلزام الجميع بتكميم الأفواه، ومنع التجمّعات، والحجر على أي حالة يشتبه بها، ثم توسّعت السلطات في سياسة الحجر لتشمل أقارب المشتبه بإصابتهم والمخالطين لهم.
عانت أماكن الحجر من ازدحام شديد وضيق كبير وسوء تهوية، وعدم مطابقة لأبسط الشروط الصحية، مع تسرّب أنباء عن إخضاع المصابين لعلاجات تجريبية لم تثبت فاعليتها كالشبح والكبل الرباعي والكهرباء والإغراق والدولاب والاغتصاب والحرق وقلع الأظافر والكثير من الأساليب الأخرى التي تركت آثاراً جانبية خطيرة وصلت في الكثير من الحالات إلى الموت. وبعد تسرّب آلاف الصور لمصابين قتلوا نتيجة إخضاعهم لعلاجات تجريبية تركت على أجسادهم تشوهات مرعبة؛ حذرت العديد من الجهات الدولية السلطات السورية من أن الإمعان في استخدام هذه العلاجات غير المضمونة قد تكون له نتائج لا تحمد عقباها، حيث من الممكن أن يتحوّر الفيروس لأشكال جديدة أشد فتكاً وانتشاراً وأعلى قدرة على القتل وأكثر احتمالاً في وجه المضادات المعروفة. ولكن السلطات السورية رفضت الانصياع وبقيت مصرة على اتباع إجراءاتها التي رأت فيها سبيلاً وحيداً للوصول إلى “مناعة القطيع” بحسب مسؤوليها.
وبالفعل حدث ما كان متوقعاً، وتحوّر الفيروس بعد طفرة مخبرية ليظهر في 2013 شكل جديد منه كانت نسبة القتل فيه مرتفعة، وسرعان ما تعرضت الطفرة الأولى لطفرة ثانية كانت أشد خطورة ووصلت نسبة القتل فيها إلى 90%، ولعل نسبة الموت المرتفعة في هذه الطفرة جعلتها غير قادرة على الاستمرار مطولاً فاختفت بعد سنوات قليلة بعد أن أزهقت عشرات آلاف الأرواح.
استمرت مواجهة السلطات السورية مع الفيروس لسنوات طويلة، وقف النظام في بعضها عاجزاً تماماً، فطلب الدعم من إيران ثم من روسيا التي أمدته بعلاجات جديدة غير مجرّبة، وتحولت الأرض السورية إلى ساحة لتجريب أحدث العلاجات الروسية وقياس مدى فعاليتها ونجاعتها. وبعد سنوات من التجريب أدت إلى ارتفاع مهول في أعداد الوفيات نجح النظام السوري مدعوماً بحلفائه بالسيطرة على معدلات الانتشار بعد فرض التكميم الإلزامي ومنع التجول والتجمعات والتوسع في عمليات الاختبار، وتم تطويق ما تبقى من مناطق انتشار في بؤر محددة سمّيت بمناطق “خفض العدوى”، ليتم التعامل معها الواحدة تلو الأخرى، وفي 2020 أعلنت السلطات السورية الانتصار على Freedom-11، وأقامت لذلك احتفالات عارمة. وأكد المسؤولون أن عدد الإصابات انخفض إلى الصفر، وأن الحالات المتبقية تم حصرها في جيب شمالي محدود. وأن الجميع بات يتمتع بمناعة القطيع طويلة الأمد.
ما حدث لاحقاً زعزع الثقة بكل شيء، ففي السابع من حزيران/يونيو 2020 ظهرت في محافظة السويداء إصابات جديدة، أكد المختصون أنه الفيروس نفسه Freedom-11، وضعت هذه الإصابات على المحك جدوى سياسة مناعة القطيع، وشكّكت بسنوات طويلة من الاختبارات والأدوية التجريبية. ويتوقع مختصون أن تكون الإصابات الجديدة مقدمة لموجة ثانية من الفيروس، ستكون أكثر قوة وأوسع انتشاراً من الموجة الأولى، وذلك بعد أن تكيّف الفيروس واكتسب مناعة أمام الأساليب التجريبية وفترة حضانة أطول. فهل تصدق التوقعات؟ هل تكون سوريا على موعد مع موجة ثانية من Freedom-11، ليكون مصير نظامها كمصير أنظمة تونس ومصر وليبيا والسودان والجزائر واليمن؟