بعد رسم الحدود السياسية بين تركيا وسوريا عام 1923 من قبل سلطات الانتداب الفرنسي، مئات من السريان والأرمن، ممن نجوا من الإبادة الجماعية لمسيحيي السلطنة العثمانية لعام 1915 ( بحسب بعض المصادر والمراجع التاريخية) ، نزحوا الى الجانب السوري من الحدود. بنوا مساكن لهم على نهر الجقجق قبالة مدينة نصيبين السريانية السورية ، بدؤوا حياتهم الجديدة في كنف الدولة السورية الناشئة آنذاك . (دائرة نفوس القامشلي) لعام 1942 كانت تحوي سبعة سجلات، ثلاثة منها خاصة بالسريان، واثنان للأرمن، وواحد لليهود، وسجل واحد لبقية الأقوام والملل. بقي السريان المكون الأكبر في القامشلي حتى نهاية سبعينيات القرن الماضي.
هؤلاء الناجون من الموت (سريان وأرمن) لم يكونوا يعلمون بأن القرية البسيطة التي بنوها في أقصى الشمال الشرقي السوري مدينة القامشلي التابعة لمحافظة الحسكة ستدخل التاريخ، وأنها ستكون يوماً مدينة كبيرة، كبرى مدن الجزيرة السورية، تحتضن أقواماً من ديانات وإثنيات مختلفة، تتصارع عليها دول عديدة اليوم . جنوباً المطار المدني في القامشلي بات قاعدة عسكرية روسية. وفي محيط المطار تنتشر قوات نظام الأسد (الفوج 154). وعلى المدخل الغربي للمدينة توجد قاعدة عسكرية أمريكية. ثم شمالاً قوات تركية تحذر من خطر تنامي القوة العسكرية لـ (حزب الاتحاد الديمقراطي) الفرع السوري لـ(حزب العمال الكردستاني)، عدوها اللدود. وفي مدن سورية أخرى على طول الشريط الحدودي (إدلب، عفرين، الباب، جرابلس، عين العرب، رأس العين). لكن داخل مدينة القامشلي، الهيمنة الفعلية هي للقوات الكردية “الأسايش”، رغم احتفاظ نظام الأسد لنفسه بمربع أمني وسط المدينة ( مفارقة )، تتجمع فيه الأجهزة والأفرع الأمنية ومكاتب حزب البعث ومقرات لميليشيا الدفاع الوطني والدوائر الحكومية.
في إطار الصراع على القامشلي، تندرج المعارك بين “قوات الدفاع الوطني” الموالية للنظام والمدعومة من إيران، من جهة أولى، و”القوات الكردية “الجناح العسكر لحزب الاتحاد الديمقراطي” المدعومة أمريكياً، من جهة ثانية.
أواخر إبريل/نيسان الماضي، في حي طي والأحياء العربية المجاورة له جنوب المدينة، والتي استمرت نحو أسبوع وانتهت بسيطرة القوات الكردية على هذه الأحياء، التي تشكل الخزان البشري للعشائر العربية ومعقل ميليشيات “قوات الدفاع الوطني الاسدية “.
أن تسيطر، خلال أيام وبخسائر قليلة “القوات الكردية” التي يعتبرها نظام الأسد قوى معادية له وأدوات للمحتل الأمريكي، على أحياء سكنية ومناطق كانت بمثابة خط أحمر ممنوع عليها الاقتراب منها، يعني ثمة صفقة بين النظام و(حزب الاتحاد الديمقراطي pyd)، برعاية وضمانة “الوصي الروسي” اقتضت إخراج ميليشيا “الدفاع الوطني” من حي طي والمناطق المجاورة له وتسليمها للقوات الكردية ، لقاء دعم مناطق النظام بالقمح والكهرباء والغاز والنفط الخام وبكميات أكبر من حقول رميلان الخاضعة لسيطرة القوات الكردية ، للتخفيف من الأزمة الخانقة التي تعاني منها مناطق النظام جراء النقص الكبير في هذه المواد.
خذلان النظام لـ”قوات الدفاع الوطني”، التي شكلها عام 2012 من أبناء العشائر العربية كقوة رديفة له بهدف تحييد العشائر عن (الحراك الشعبي الثوري) المناهض لحكم الأسد، ولمواجهة التمدد الكردي إذا ما اخترق التفاهمات معه، خيب آمال العشائر العربية وآمال جميع الموالين للنظام من مختلف المكونات في منطقة الجزيرة، وزعزع ثقتهم بقدرة هذا النظام على إعادة سلطة الدولة الى هذه المنطقة الحيوية من سوريا.
صحيح أن موسكو وطهران من أشد حلفاء النظام السوري، وصحيح أن موسكو أنشأت قاعدة عسكرية كبيرة في مطار القامشلي، للحد من النفوذ الأمريكي المتزايد شرق الفرات ولحماية القامشلي من اجتياح تركي محتمل. بيد أن انتصار أكراد البيدا وهزيمة عرب النظام في (معارك القامشلي) الأخيرة يعني ثمة خلافاً حاداً بين موسكو وطهران، حول طريقة التعاطي مع الملفات المتشابكة للحرب السورية. فالإيرانيون يدعمون الميليشيات العربية “الدفاع الوطني”، ويسعون لإطلاق “مقاومة شعبية” لتحرير منطقة شرق الفرات من القوات الأميركية وحليفتها قوات سوريا الديموقراطية “قسد” التي تشكل القوات الكردية عمودها الفقري. أما الروس، الراغبون بتحجيم الدور الإيراني في سوريا، يفضلون خيار التفاهم والحوار حتى مع ألد الخصوم (أمريكا) لضبط الأوضاع في منطقة شرق الفرات، وفي بقية المناطق السورية الساخنة والخارجة عن سلطة النظام، تمهيداً لتفاهمات وتوافقات أكبر مع الأمريكان والأتراك، حول حل سياسي للمعضلة السورية يرضي جميع الأطراف وينهي عقد كامل من المأساة السورية.
موسكو تتأمل أن تثمر سياستها الهادئة بإنجاح الحوار بين أكراد البيدا والنظام ، وأن يتفق الطرفان على مخرج مناسب لمستقبل ما تسمى بـ”الإدارة الذاتية لشمال شرقي سوريا” التي أعلنها ويهيمن عليها حزب الاتحاد الديمقراطي “pyd”.
في زحمة الصراع على القامشلي يرى المسيحيون أن وجودهم مهدد في المدينة التي وضعوا لبناتها الأولى. في كل جولات معارك القامشلي، تصبح الأحياء المسيحية خطوط تماس بين المتقاتلين. نهاية 2015 وبداية 2016 تعرضت الأحياء المسيحية، وسط مدينة القامشلي، لسلسلة تفجيرات إرهابية أوقعت العشرات من المدنيين بين شهيد وجريح، وأحدثت أضراراً مادية كبيرة في الممتلكات، دفعت بالكثيرين إلى ترك مدينتهم والهجرة خارج سوريا، من غير أن تُعرف الجهة التي تقف خلف تلك التفجيرات، ولم تتبناها أية جهة ، وإن كان البعض يربطها برفض السريان الآشوريين والأرمن إخضاع أحيائهم لسلطة الأسايش الكردية ورفضهم إرسال أبنائهم للخدمة الإلزامية في القوات الكردية.
يخشى المسيحيون من أن تستغل بعض الأطراف الوضع المضطرب في القامشلي، لاستهدافهم بقصد خلط الأوراق والزج بهم في معارك ليست معاركهم. واللقاءات التي يجريها جنرالات روس من حين لآخر مع الهيئات والمجالس الكنسية لم تبدد مخاوف مسيحيي القامشلي والجزيرة السورية.
سليمان يوسف.. باحث سوري مهتم بقضايا الأقليات .
سليمان يوسف .