ريما بالي – الناس نيوز ::
قبل عدة سنوات، اتخذت قراراً صغيراً وصامتاً بالتوقف عن قراءة الشعر، إذ اقتنعت بعد سباحة مضنية في بحور من قصائد حديثة لشعراء حداثين ومستحدثين أن الشعر انتهى، وربما مات عند وفاة محمود درويش.
وبذكر درويش، يحضرني مقطع كان أحد الإعلاميين الأصدقاء قد نشره على صفحته، يقول فيه إنه سأل الشاعر الكبير أثناء حوار معه: ما هو الشعر؟ فأجابه: “أن تقول كلاماً لم يقله أحد قبلك قط، وفيه وزن وموسيقى داخلية”.
أعجبني الكلام، وأظن أنه أعجب أيضاً بعض الشباب المتحمس للشعر من تلامذة درويش، فأنتجوا قصائد كثيرة قالوا فيها كلاماً لم يقله قبلهم أحد قط، ولكن أيضاً.. لم يفهمه أحد غيرهم قط! فهل كان ذلك شعراً؟
بمقياس فطري بسيط، فسّرت أختي كيف تحكم على مادة أدبية بالجودة، قالت: إذا شعرت أثناء القراءة أن جلدي يقشعر! وقد أقنعتني أختي أكثر من درويش، وبتفسير كاريكاتوري يمكن أن أقول، إن الشعر هو الكلام الذي يشعرك بالـ”قشعر يرة” عند قراءته، أولاً وثانياً وأخيراً.
القشعريرة هي إحساس بيولوجي بالأساس، ورد فعل عن الإفراز اللا إرادي لهرمون الأدرينالين، وهو الهرمون الذي يفرزه الجسم في الظروف المفاجئة، من أجل منح الجسد استعداداً كافياً للمواجهة.
ومعروف أن هذا الهرمون يكثر إفرازه عند الخوف، البهجة، القلق، الدهشة، الإثارة والحب، فهل يكون الشعر إلا واحداً من هذه الأشياء، أو وسيلة لغوية تترجم كل هذه الأشياء؟
إذا كان الحب (حسب ابن عربي) موتاً صغيراً.. فالشعر إذاً هو حبٌ صغير، قصة عشق نعيشها في لحظات، ببهجتها وإثارتها وحزنها ودهشتها، وفوق كل ذلك، أو قبل كل ذلك بقشعريرتها .
اعتماداً على هذا المقياس، كنت قد ابتعدت سابقاً عن كل ما يسمى بالشعر الحديث، واعتماداً عليه أيضَاً، أقرّ اليوم أني كنت مخطئة، فقد اكتشفت مؤخراً قصائد جديدة لأكثر من شاعر أو شاعرة، أصابتني كلماتها بالقشعريرة، قشعريرة الروح والفكر والجسد.
ميسون جميل شقير هي إحدى تلك الشاعرات اللواتي صالحنني مع الشعر، وعملت كلماتهن على إفراز الأدرينالين في دمي، والدموع من عيني والبهجة والشجن في قلبي وروحي.
ميسون هي شاعرة وكاتبة سورية من محافظة السويداء، تحمل إجازة في الصيدلة. نشرت ديوانها الشعري الأول عام 2008، وهو الذي حصد جائزة المزرعة الأدبية تحت عنوان “اسحب وجهك من مرآتي”.
كما نشرت مجموعة قصصية في العام نفسه وحصلت على جائزة اتحاد الكتّاب الفلسطينيين. وكتبت لاحقاً العديد من المقالات نشرت في صحف مختلفة. مقيمة حالياً في مدريد /إسبانيا، التي وصلت إليها لاجئة منذ حوالي ست سنوات بعد اندلاع الحرب.
تقول ميسون في مقال نشر عن تجربتها مع الشعر والصحافة واللجوء والمنفى، في مجلة Idearabia الإسبانية، المختصة بالثقافة العربية: ” الحرب كسرت كل شيء.
الحرب قتلت أخي الذي كانت ولادته هي أول الشعر بالنسبة لي، الحرب قتلت لون الشعر ورائحته وصوته، وأعادت فيّ إنتاج شعر آخر، شعر ملذوع ومحروق كشعر ماتشادو، وجعلتني مثله أعرف الآن بعد أن عشت في المنفى أني “قصيدة بعد قصيدة وطعنة بعد طعنة” سأموت هنا في إسبانيا، في هذا البلد الطيب، وأني أكتب كي لا يشاهدني أحد وأنا أبكي “.
القصيدة أم، هي واحدة من أروع قصائد ميسون، وهي التي اخترتها اليوم كأول شاهد على نظريتي البسيطة التي تفسر ما هو الشعر.
القصيدة أم
القصيدة أم
تربّي أبناءها
كي يعودوا
صغاراً
تطبخ لهم نار دهشتها
بحكمة
وحين تستوي
بكامل طعم الحطب فيها
تقدّم لهم
وجبة من جوع
على طبق
من
ماء.
القصيدة أم
والشاعر خارجها يتيم
يدخلها كي يعبر النار
بين غيمتين
يمد أصابعه
ويحرق
قلبه.
القصيدة أم
تربّي صوت أبنائها
وتترك شعر بناتها
للريح
ولقلوب العابرين.
ترفو لأبنائها الطرق البعيدة
وتحيك لهم آثار أقدامهم
كي لا
تجف.
وحين يغرق أولادها الهاربون
تكوي عينيها
بالملح
وتطعم قلبها
وأصابعها
لفراخ الأسماك الصغيرة.
وحين
يموت أولادها تحت التعذيب
يسقط شعرها الطويل
دفعة واحدة
تحف قلبها
على حجر.
القصيدة أم
كلّ صباح
تعجن كلّ صباح
ما طحنته الطائرات من البيوت
وتوزع خبزها
على كل هذا العالم
كي
لا يشبع
أحد.
القصيدة أم
تقول لأولادها:
وجوه كل الشهداء
تشبه وجه المسيح
لا شيء تغيّر
كلّ الأمهات تشبه مريم
لا شيء تغيّر
لكني صعدت السماء
لم يكن الله أبداً
هو الله.
في يوم اللاجئ، كتبت ميسون لأنتونيو ماتشادو، الشاعر الإسباني الذي مات في فرنسا بعد أن قصدها هارباً من الطاغية فرانكو:
“كم هو صعب يا أنتونيو ماتشادو
أن يكون وطنك الذي مت بعيداً عنه
كم هو صعب
أن يكون
هو
منفاي
وكم هو موجع يا صديقي
الربيع في المنفى
وصلنا
إلى الجمال الذي لا يحتمل
وصرنا
جاهزين لأخذ الصور في كل مكان
للاصطفاف بالدور لاستلام المعونات
وجاهزين تمامًا للتحدث في الباصات
بصوت خفيف
وصلنا
ووصلت حقائبنا المليئة بأحلامنا المكوية جيداً
وبصور من تركناهم خلفنا
من وعدناهم أن نعود
ووعدونا ألا يشيخوا كثيراً في غيابنا
وصلنا
ووصلت حقائبنا المليئة بصور الضحايا
التي حملناها معنا كي نقنع أنفسنا
بأننا لهم أوفياء
وصلنا
لم يسقط شيء من حقائبنا
لكننا
نحن
سقطنا من حقائبنا
على الطريق.”
وختاماً:
“الأسود لا يليق بنا
نحن لا نليق بأنفسنا
أيها الراحلون
اغفروا لنا بقاءنا فوق هذي الأرض
اخلعونا عن مسائكم
وناموا سالمين”.
ميسون جميل شقير


الأكثر شعبية


الشرع يستقبل عضو الكونغرس الأميركي كوري ميلز والوفد السوري…

ليس عتباً على البرجوازية السورية…بل دفاعٌ عنها!
