محمد برو – الناس نيوز ::
عرفت المكتبات الكثير من كتب التراجم، التي تحدثت عن أعلام ومؤثرين وفنانين وقادة رأي، وفي تفريعة جميلة ظهر فن مختلفُ، عرف بـ البورتريهات، وهي لوحات تعرِّف بهذه الشخصيات كما عايشها الكاتب. هذه البورتريهات غالباً ما تكون مادة رشيقة، ترسم لوحة لهذه الشخصية أو تلك، مضيئة جنبات محددة منها، بغرض العرفان، وحفظاً لها في الذاكرة من آفة النسيان، أو للتعريف بها والاضاءة على آثارها، وقد كان لهذا الفن دوراً كبيراً في تعريف القراء والمتابعين بمفكرين ومؤثرين وفنانين ومناضلين وغيرهم كثير.
في كتابه الجديد يعمد كاتبنا الشاعر الصحفي “بشير البكر” لتقليب دفاتر ذكرياته العتيقة، وانتخاب جانب مهم من هذه الذاكرة الغنية، التي راكمت وقائع عاشها عبر نصف قرن من العمل الصحفي والثقافي والسياسي والأدبي، تعرف خلالها إلى مئات الأشخاص المؤثرين وخبرهم عن قرب، اصطفى منهم اليوم بضعاً وخمسين شخصية، كان لحضورهم بالغ الأثر في حياته وفي نظرته للحياة، اختارهم ليقدمهم لنا جرعة مكثفة من عبق الأيام الحاضرة والعابرة.
• يستهل بشير البكر كتابه بالحديث عن شخصيةٍ، ربما تكون من بين الشخصيات الأكثر حضوراً وأثراً، في فضاء الثقافة والفكر العربي في العقدين الأخيرين، المفكر الفلسطيني “عزمي بشارة” ويكثف الحديث عنه من خلال شهادات عزمي بشارة نفسه في كتاب “في نفي المنفى” “2017” وهو الحوار الذي أجراه معه الكاتب فخر أبو صقر.
واضح من خلال السرد المستفيض عن شخص عزمي بشارة، مدى تأثر الكاتب به وبمنهجه في التحليل ومقاربة القضايا المحورية، “المثقف العربي في الزمن الصعب” هكذا يسمي بشير البكر الفصل الأول من كتابه متحدثاً عن المراحل التي مر بها عزمي بشارة في مسيرته الفكرية والسياسية، بدءاً من شبابه الأول حتى خروجه من فلسطين لمنفاه عام 2007.
تعد شهادة عزمي بشارة حول التجربة الفلسطينية بشكل خاص، شهادة تتجاوز إلمامات الكاتب والمثقف كونها تجربة عاشها وشارك فيها من موقع المشارك والباحث الذي ينتمي إلى الموضوعية ويتطلع إليها بوصفها انحيازاً إلى الحقيقة، بخلاف الحياد الذي لا يعني أبداً تبني موقفاً أخلاقياً أو قيمياً تجاه أي قضية، يسير بنا كتاب “في نفي المنفى” من بواكير نشاط الشاب عزمي بشارة في النضال الفلسطيني في فترة انتهائه من المرحلة الثانوية حيث كان ناشطاً في صفوف الشبيبة الشيوعية، ثم ما لبث أن ظهر خلافه مع الحزب الشيوعي الإسرائيلي بدءاً من عام 1980 إلى أن قدم استقالته منه بعيد عام 1986 وعمله محاضراً في جامعت بير زيت، ثم تأسيسه “حركة ميثاق المساواة” عام 1992 ليطرح مبدأ “الدولة لجميع مواطنيها”، معارضاً أساس دولة إسرائيل “يهودية الدولة”، وانتخابه لعضوية الكنيست، الذي بقي فيه عشرة أعوام 1996-2006 ليخرج بعدها خروجاً نهائياً إلى منفاه عام 2007.
ينفي عزمي بشارة عن نفسه صفة السياسي بالمعنى السائد للعبارة، إنما هو مناضل دوره الرئيس الربط بين الأخلاق والسياسة، ويرى أنه لولا تأسيس منظمة التحرير وفصائل الكفاح المسلح، لكان هناك خطر على الهوية الفلسطينية.
ويبقى حلمه الأخير كإنسان، أن يعود إلى قريته “ترشيحاً” في منطقة جبلية قريبة من البحر لأنه يجدها جزءاً مهماً من انتمائه العائلي.
• في لوحته الثانية من هذا الكتاب يحدثنا عن معلم من معالم القصة القصيرة في سوريا زكريا تامر، يذكر بشير البكر حديثه الأخير مع زكريا تامر، أنه حين بدأ الكتابة في القصة القصيرة عام 1958 لم يكن قد قرأ أي كتاب او مبحث عن هذا النوع الأدبي، وبعد أن أنهى مجموعته القصصية الرابعة، قرأ كتاباً عن القصة القصيرة، فوجد أن جميع ما كتبه مخالف لما ورد في هذا الكتاب.
يستعيد قصة مجموعته القصصية الأولى “صهيل الجواد الأبيض” التي كانت سبباً لعرض الشاعر يوسف الخال على زكريا تامر أن يؤسس مجلة للقصة القصيرة على غرار مجلة شعر، لكنه رفض ذلك فكان سبباً لعدم صدورها، وعند سؤاله عن أدونيس أجاب “أحب شعر الماغوط والسياب وصلاح عبد الغفور، أما أدونيس فقد عكس فهمي للشعر، أحسه ذهنياً”، وهو يرى أن أدونيس كان لعيباً منذ أن كان فتى حين مدح الرئيس شكري القوتلي.
وعن انخراطه في الحزب الشيوعي السوري 1949 وخروجه منه بعد أقل من عامين، حيث أتيح له أن يعرف ما لا يعرفه الكثيرون ممن استمروا في الحزب، ويؤكد أن هذه التجربة ساعدته على رؤية الحزب على حقيقته، فقد وجده على عكس شعاراته” ويرى أن بعض التجارب الحزبية في سوريا أشبه بالانتماء إلى قبيلة، فالانتساب للحزب القومي السوري أو لحزب التعاون الاشتراكي يعني أنك لست وحدك، وإذا امتدت إليك يد، ترتفع ألف يد لتدافع عنه، هذه قبيلة وليست حزباً.
وعن تجربته في الكتابة، يذكر أنه كان يكثر الترداد إلى المكتبة الظاهرية صباح مساء، فيقرأ في الصباح كتاباً وفي المساء كتاباً، وقتها كان أجره كحداد يقارب أربعمئة ليرة شهرياً، بينما لا يتجاوز راتب موظف حكومي مئة وخمسين ليرة سورية، وقبل أن يبدأ رحلته ككاتب، كان قد قرأ الكثير من كتب الأدب والسياسة، والمترجمات العالمية، وكان يتجنب أن يكون مقلداً لأحد خلا صوته، وكان كذلك بامتياز.
• يحدثنا عن علاقته بعبد الرحمن منيف الذي تعرف إليه مع صدور أول عمل له “الأشجار واغتيال مرزوق” 1973، والتقاه في باريس سنة 1985 في بيت الفنان يوسف عبدلكي وزوجته السينمائية هالة العبد الله، وتجولا معاً في الحي اللاتيني حيث كانت سحائب غليون منيف تعبق فيها، لكن التحول الأثير حصل حين انضم لتلك اللقاءات الشاعر الموريتاني الباهي محمد، الذي جعل تلك اللقاءات أكثر حميمية وغنى ودفئاً، ولقد أفرد البكر فصلاً في كتابه هذا عن الباهي محمد “رجل معجزات الصحراء”، الذي ما إن يحضر حتى يكتسي المجلس بساطة وجمالاً، سمته سمة كبار الصعاليك الذين يعبرون بنعال من ريح كما عبر الشاعر الفرنسي رامبو، يمتح من عروبة نقية ومن بيئة شنقيطية، تتواشج فيها متانة العلاقة باللغة والشعر والقرآن.
مؤلم دائماً هو الرحيل، عبر مراكب الموت العابرة، رثاه عبد الرحمن منيف في كتاب مفرد له “عروة الزمان الباهي”، ويذكر في متنه أن هذا الكتاب فرضه الموت وأملاه الغياب، وقد كان يراه أشبه بزوربا اليوناني، رحل الباهي سنة 1996عن عمر قارب ستة وستين عاماً، بعد أن قدم كتابه الكبير “رسالة باريس”، الذي يعد أغنى دليل ثقافي بالعربية عن مدينة النور باريس.
• الحكواتي الفصيح هكذا يقدم بشير البكر شخصية “عارف حجاوي” أستاذ الإعلاميين” الذي تمتعك فصاحته دون تنطع طاوياً البون اللغوي بين امرؤ القيس والمتنبي ونزار قباني وعمر أبو ريشة، يأتيك حديثه بإيقاع منساب عفو الخاطر، ما إن تسمعه حتى تعرف هوية محدثك، له مذهبه الخاص باللغة العربية تيسيراً وتسهيلاً، وربما يقترب إلى حدٍ كبير في هذا من المفكر العراقي علي الوردي، وإن كان الغزالي قد قدم إحياءً لعلوم الدين اشتهر به، فقد قدم عارف حجاوي موسوعته عن الشعر في مجلداتها الخمس إحياءً للشعر العربي (أول الشعر- تجدد الشعر- تألق الشعر- إحياء الشعر- آخر الشعر)، وله مذهبه الخاص في التعلم، فهو يأنس إلى تعليم نفسه منذ الصغر، وحدث أن انضم إلى دورة لتعلم اللغة الألمانية في ألمانيا لكنه ما لبث أن غادرها بعد ساعةٍ إلى غير رجعة، ثم عكف في بيته بضع أشهر يعلم نفسه إلى أن تعلمها، وهكذا تعلم عزف العود وتلحين الأغنيات وكتابتها، وأشياء في صدره كما يحب أن يكرر في برنامجه الرشيق “سيداتي سادتي” الذي يقدمه عبر تلفزيون العربي إلى يومنا هذا.
من الصعوبة بمكان أن تحصر شخصية عارف حجاوي بتصنيف محدد، فهو كفقهاء الزمن القديم، يبرعون في الفقه والشعر وعلم الأنساب والعروض والفلك والموسيقى والكيمياء، وأشياء أخرى.
لا يمكن الحديث عن كتاب رسم تسعاً وستين لوحة، كل لوحة منها عالم متمايز غني، يدفعك للاستزادة من معرفة الكثير ممن وردت أسماؤهم في هذا الكتاب والتعرف إلى كتبهم أو آثارهم، عشرات الأسماء، (عبد السلام العجيلي، بول شاؤول، حامد أراغون، محمد الماغوط، أمين معلوف، صاموئيل شمعون، صادق جلال العظم، رشا الأمير، رياض الريس، سميح شقير) وحشد كبير من أقرانهم لا يتيح العرض المقتضب ذكرهم، ولا بد من قراءة هذا الكتاب الماتع للتعرف إلى طريف اخبارهم وأشياء لم تنشر عنهم من قبل.
هو كتاب يصلح أن يكون رفيقاً ذا ظلٍ خفيف فلا يلزمك الاسترسال في قراءته إلا بالقدر الذي تحب، وفصوله عبارة عن مقالات منفصلة، لا تقتضي الترتيب في قراءتها، لكنها أنس بمن رحلوا وحرص على من بقي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سيرة الآخرين. الكاتب بشير البكر
صدر عن دار جسور للنشر. بيروت 2023