يتداول الناس نكتة ذات دلالة حول احتضار دكتاتور إسبانيا فرانكو مفادها: “بأن جمهوراً كبيراً تظاهر أمام القصر الذي كان فيه فرانكو يعاني سكرات الموت، وقد تهادى إلى سمعه أصوات الجمهور، فسأل: ما هذا الضجيج: فقيل له بأن الشعب جاء لوداعك. وعندها سأل: إلى أين راحل هذا الشعب”.
إن هذه النكتة ذات دلالة على تشبث بعض الكهول بالسلطة حتى آخر رمق وبخاصة في الأنظمة الدكتاتورية الشمولية. فليس لدى الدكتاتور شعور بأن هناك نهاية.
يستمر الإنسان بحب الحياة حتى نهاية العمر، ومن النادر أن تجد كائناً بشرياً ملّ من البقاء على هذه الأرض إلا إذا مر بحالة نفسية من الاكتئاب الشديد أدت إلى انتحاره.
فغريزة البقاء لا تزول. لأنها بالأصل غريزة، وهي أقوى الغرائز الحيوانية الناطقة وغير الناطقة على الإطلاق. ومن حق الإنسان أن يحيا حياة كريمة حتى آخر لحظة من حياته.
ونتيجة ثقافة الحفاظ على الحق الإنساني واحترام غريزة البقاء فقد استنت التقاليد الاجتماعية ودول كثيرة أعراف وقوانين للاهتمام بالمسنين. والاهتمام بالمسنين اعتراف بحق الحياة الكريمة لمن بلغ من العمر عتياً.
عند هذا الحد من القول البسيط فإنه لا اعتراض على ما جاء به، لكن هناك ظاهرة سيكولوجية يعاني منها بعض الكهول وتسبب نفوراً منهم، ألا وهي حب الحياة لدرجة الأنانية والعناد وعدم قبول الحقيقة ومنطق الواقع. وهؤلاء النفر من الكهول موجودون في العمل السياسي والسلطوي وفي الحياة العامة.
وخطر الكهل الأناني والمتميز بالعناد ونسيان الواقع في الحياة اليومية وعلى الحياة اليومية خطر محدود في الحلقة الضيقة من الأولاد والأحفاد. ولهذا تعامل الأولاد والأحفاد معهم يتميز بالشعور الإنساني من جهة، وشعور الشفقة التي لا علاقة لها بالحب، وانتظار اللحظة التي يرحلون فيها من الحياة، على عكس شعور الأولاد والأحفاد بالكهول الذي يحبون ويضحون من أجلهم، حيث رابطة الحب هنا لا علاقة لها بالشفقة.
ولكن كهول السياسة الأنانيين، وبخاصة من يعاني منهم من الخرف هم خطر على مجتمعاتهم وعلى الحياة فيها.
فالكهل الثري الذي يحتفظ بالثروة باسمه ويحرم الأولاد والأحفاد من التمتع بها، ويخلق لديهم الرغبة الدفينة في موته العاجل، لا يتجاوز خطره هذا الحقل القرابي.
أما الكهل السياسي الذي لم تعد الدماء تصل إلى دماغه، ولم يغن عقله بالثقافة التي تحفظه من الخرف واستمر معانداً منطق الحياة فهو خطر مستطير.
فالسياسة، تحتاج في الغالب، إلى عقل وقاد، عقل قادر على الإحاطة بالاحتمالات الممكنة، وليس غريباً أن عرف بعضهم السياسة بأنها فن الممكن.
وإنه من العبث أن ينظر رجل السياسة إلى ممكن قابل للتحقق على إنه مستحيل، أو العكس ينظر إلى المستحيل بأنه ممكن. بل إن مغامرة العقل السياسي الحقيقية تكمن في تحقيق ما ظُن بأنه مستحيل، فيما تكمن العطالة العقلية لدى ذهنية شاخت في عدم النظر إلى تغير الأحوال، والتعامل مع الوقائع الجديدة بالذهنية نفسها التي تعاملت فيها مع الوقائع القديمة.
فلقد انتقلت عدوى الدولة الشمولية وأحزابها إلى حركات المقاومة الفلسطينية، وإذا بالأمناء العامين وما شابههم يتمسكون بسلطاتهم حتى الموت، ويتصرفون في الربع الأول من القرن الحادي والعشرين كما تصرفوا في ستينات القرن الماضي، دون النظر إلى تغير الأحوال والأجيال. ومن أطرف الأمور أن الأجيال التي فتحت عيونها على وجودهم في السلطة أجيال قد هي الأخرى وصلت سن الكهولة.
ولقد أصبح هؤلاء موضوع تندر عوضاً عن أن يكونوا موضوع احترام واحتفال بهم وهم خارج السلطة، بوصفه جيلاً قدم في زمن ما ما يحمد عليه.
وسائلٍ يسأل: “أليس من الواجب علينا الاستفادة من تجاربهم وخبرتهم؟ هذا السؤال يعني بأنهم ما عادوا أصحاب قرار، لكن الاستفادة من خبرتهم ضرورية، وشكل من أشكال الاحترام.
إن العقل ذو ارتباط مطلق بالدماغ الذي تسري عليه أحوال الجسد، فهو كأي عضو قابل للخراب والتعب ويحتاج دائماً إلى شرايين سليمة وقلب معافى ليضخ له الدماء الضرورية للحفاظ على لياقته في التفكير، والتفكير يحتاج دائماً إلى مزيد من المعرفة والاطلاع وذاكرة وقادة.
نحن الكهول يجب أن لا نغلق الطريق أمام العقول النضرة والمغامرة، وفي كل صعد الحياة.
أحمد برقاوي