ميديا – الناس نيوز ::

ولات – فيصل يوسف – في خضمّ التحديات الوطنية والإقليمية التي تواجه سوريا في هذه المرحلة المفصلية من تاريخها، تبرز تصريحات القيادة الانتقالية لتفتح نافذة جديدة على مستقبل العلاقة بين الدولة والمكوّنات الوطنية، وفي مقدمتها الشعب الكوردي. فقد أكد الرئيس أحمد الشرع في حديثه الأخير مع شبكة CBS الأمريكية، أن حقوق الكورد ستكون مصونة في الدستور السوري، مشيراً إلى أن حق عودة كل من هُجّر خلال الحرب مضمون منذ الآن، حتى قبل بدء المفاوضات الدستورية، في إشارة واضحة إلى المهجّرين الكورد من عفرين وتل أبيض ورأس العين بين عامي 2018 و2019.
كما أشار الرئيس الشرع إلى أن معالجة أزمات البلاد المتراكمة يجب أن تتم وفق أولويات واقعية لا بضربة واحدة، في حين أكّد وزير الخارجية أسعد الشيباني في حديث متلفز دعم الحكومة الانتقالية لما طرحه الرئيس بشأن حقوق الكورد بما فيها عيد نوروز.
هذه الإشارات السياسية، وإن بدت مطمئنة، إلا أنها تضع البلاد أمام اختبار حقيقي يتمثل في ما إذا كانت النوايا المعلنة ستتحول إلى خطط عمل وسياسة وطنية متكاملة تُدرج الحقوق ضمن مشروع إعادة بناء الدولة بعد إسقاط النظام أم ستبقى دون تنفيذ اسيرة التوازنات والظروف.
إن ما تطرحه هذه التصريحات يتجاوز بعدها الكوردي المباشر ليطرح سؤالاً أعمق حول طبيعة الدولة السورية القادمة، هل ستكون دولة الشراكة الوطنية والتعددية التي تعترف بتنوعها القومي والثقافي كمنبع لقوتها أم دولة مركزية لاتقر بذلك ؟ فالقضية الكوردية ليست حدثاً عابراً في سياق الثورة السورية، بل هي قضية متجذّرة في بنية الدولة منذ تأسيسها، ومرآة تعكس طبيعة العقد الاجتماعي الذي حكم علاقة الدولة بمواطنيها لعقود طويلة.
إن الاعتراف بالحقوق في الخطاب السياسي لا يُعدّ سوى الخطوة الأولى في مسار طويل وشائك. فالأوطان تُبنى بالمؤسسات والسياسات التي تُحوّل المبادئ إلى واقع قانوني ملزم. والمواطنة المتساوية لا تتحقق بالمبادئ النظرية فقط ، بل بتكريسها في الدستور والقوانين والممارسات اليومية.
فحين تُترجم الحقوق إلى التزامات واضحة في البناء الدستوري والمؤسسي، تصبح الدولة قادرة على إنتاج الثقة، وهي العنصر الذي لا يُستبدل في أي عملية بناء وطني.
لقد كان النهج الذي اتبعه النظام السابق لعقود وأدى لدمار البلاد هو ربطها بين مفهوم القوة ومركزة السلطة، واعتبار التنوع تهديداً للاستقرار. غير أن التجارب الحديثة، من أوروبا إلى آسيا، أثبتت أن القوة الحقيقية للدولة تنبع من قدرتها على استيعاب اختلافاتها وإدارتها ضمن إطار من العدالة الدستورية.

فالدول التي حاولت صهر مكوناتها بالقسر أو الإقصاء انتهت إلى هشاشة سياسية واجتماعية، بينما استطاعت الدول التي اعترفت بتعدديتها أن تُحوّلها إلى مصدر ديناميكي للتماسك والتطور.
في السياق السوري، لا يمكن الحديث عن دولة مدنية ديمقراطية دون إعادة تعريف العلاقة بين المركز والمكوّنات، وتثبيت مبدأ الشراكة الوطنية بوصفه قاعدة تأسيسية للنظام السياسي. فالمسألة الكوردية، بما تحمله من أبعاد قومية وثقافية وسياسية، تشكل اختباراً حقيقياً لمدى صدق التحول الوطني الموعود. وهي ليست قضية فئوية أو مطلباً محلياً، بل قضية تتعلق بعمق بنية الدولة وهويتها الجامعة.
ومن هنا فإن أي معالجة جدية للحقوق الكوردية يجب أن تنطلق من الاعتراف الدستوري الصريح بوجود الشعب الكوردي كشعب أصيل من مكونات الدولة السورية وضمان حقوقه القومية في إطار نظام ديمقراطي لا مركزي، مع تمكين التعليم باللغة الأم بوصفه حقاً ثقافياً أصيلاً، وضمان المشاركة العادلة والمنصفة في مؤسسات الدولة العليا بما يعكس الشراكة الفعلية في القرار الوطني لا التمثيل الرمزي.
إن تحويل هذه المبادئ إلى واقع يحتاج إلى إرادة سياسية واضحة وإلى إطار مؤسسي قابل للتنفيذ لا إلى وعود مرحلية، لأن القضية ليست مطلباً كوردياً فحسب، بل اختبار لجدية المشروع الوطني السوري برمّته. فكل تأخير في الاعتراف بهذه الحقوق أو التعامل معها كورقة تفاوضية مؤقتة يعني إدامة هشاشة الدولة وتأجيل استقرارها الحقيقي.

التجارب المقارنة تؤكد أن توسيع دائرة الحقوق لا يُضعف الدولة بل يُحصّنها. فحين يشعر المواطن، أيّاً كان انتماؤه القومي أو الديني، أن الدولة تمثّله وتحمي كرامته دون تمييز، يصبح ولاؤه طوعياً وعميقاً. أما حين تُدار العلاقة بمنطق الريبة أو الهيمنة، فتنشأ دولة هشّة محكومة بالاصطفافات والانقسامات.
وعليه فإن الرهان على الاستقرار الوطني الدائم لا يتحقق إلا من خلال دستور تعددي حديث يُعيد تعريف المواطنة وطبيعة الدولة على أساس المساواة والشراكة والاستفادة من التجارب الناجحة عالميا في هذا المجال.
إن بناء الثقة يتطلب خطوات عملية ملموسة تتمثل في إطلاق حوار وطني شامل يضم ممثلين حقيقيين عن جميع المكونات القومية والدينية والاجتماعية دون إقصاء، وفي وضع خطة حكومية معلنة تتضمن جدولاً زمنياً واضحاً لتثبيت الحقوق الدستورية والسياسية، وفي تبني برامج تعليمية وإعلامية تعيد تعريف الهوية الوطنية بوصفها هوية جامعة للتنوع لا نافية له.
كما أن تأسيس آليات مساءلة تضمن تنفيذ الالتزامات وتمنع الالتفاف عليها سياسياً أو إدارياً يشكل ضرورة ملحة لترسيخ الثقة المتبادلة بين الدولة والمجتمع.
فالحقوق، حين تُكرّس في مؤسسات الدولة وقوانينها، تتحوّل إلى رافعة لاستقرارها لا عبئاً على تماسكها. أما تجاهلها أو تأجيلها فيبقي العلاقة بين الدولة ومواطنيها رهينة الشك، ويمنع ولادة عقد اجتماعي جديد يستند إلى العدالة والشراكة.
إن الطريق إلى سوريا المستقبل يمر عبر الاعتراف الصريح بالتنوع وتحوّله إلى مصدر شرعية للدولة الحديثة، فالتعدد لا يهدد الوحدة الوطنية، بل هو الذي يمنحها معناها الحقيقي. والدولة التي تتسع لجميع أبنائها وتكفل حقوقهم على قدم المساواة، هي وحدها القادرة على إنتاج وطن مستقر، وديمقراطية قابلة للحياة، وهوية وطنية جامعة تنهي قرناً من الإقصاء وتفتح أفقاً جديداً للاستقرار والتنمية المستدامة.



الأكثر شعبية

ترامب يهدم جزءا من البيت الأبيض لبناء قاعة احتفالات “رائعة”…


