د . محمد حبش – الناس نيوز ::
لعل أكثر شعار ترفعه الحداثة هو شعار فصل الدين عن الدولة، حيث يستند الدين إلى مطلقات ثابتة فيما تحتاج السياسة دوماً للمداورة والمحاورة والمناورة، وقد باتت هذه القاعدة أشهر الشروط الأمريكية لتصنيف العالم بين دول ديمقراطية ودول أصولية، وفي غمار ذلك خاضت أمريكا سلسلة حروب طاحنة أشهرها حربها على أفغانستان، وفي هذا السياق يمكن ببساطة تصنيف أصدقاء أمريكا من خصومها، وبالتالي الدول الحرة والدول المقيدة، حيث تنال الدول الحرة ما شاءت من الدعم الأمريكي فيما تعاني الدول الأصولية من اشتراطات معقدة للدخول في النعيم الأمريكي وعلى رأسها فصل الدين عن الدولة، وإعلان الالتزام التام بالشرعة الدولية وعلى رأسها إعلان حقوق الإنسان.
وتختار الولايات المتحدة تصنيف خصومها الذين يتمردون على القيم الأمريكية بعبارة الأصوليين، ومعنى هذا المصطلح انهم القوم الذين يتبعون أصولاً دينية غابرة ولا يلتفتون لقيم الحضارة الحديثة ولا يلتزمون قواعد حقوق الإنسان.
هكذا هو الخطاب الأمريكي الرسمي منذ قرنين ونصف وتحديداً منذ تم إعلان الدستور الأمريكي، وباتت أمريكا أرض هجرة لأحرار العالم الذين هاجروا هرباً من الاضطهاد والقمع والظلم وتحكم اللاهوت.
ولكن حرب غزة وأهوالها جعلت هذه القيم الأمريكية في مهب الريح، وألزمت كل الذين يكتبون في الحضارة الحديثة ونحن منهم على مراجعات عميقة، حيث لا يمكن تفسير ما يجري بقواعد العقل والمصالح وحدها، لقد بات واجباً أن نعترف بأن إملاءات أخرى تحدد ملامح السياسة الأمريكية، وتفرض مواقفها، دون أي اعتبار لإعلان الدستور ولا لوثيقة توماس جيفرسون ولا لميثاق الهيئة الدولية ولا لإعلان حقوق الإنسان.
لا يمكن سياسياً تفسير استنفار بايدن ووزيري خارجيته ودفاعه للوقوف على خطوط القتال الإسرائيلي، والتفرغ اليومي لإصدار البيانات المتصلة بعدد القتلى والجوعى وطول الأنفاق وعمقها، وعدد سيارات المازوت التي دخلت وعدد الرهائن الذين يتم تبادلهم كل يوم دون أن تتجرأ بكلمة واحدة تطلب فيها من إسرائيل وقف الحرب …
كان يفترض من الدولة العظمى أن تكون على مسافة واحدة من المتحاربين حتى تستطيع أن تؤثر في السلام ولكنها فيما يبدو ليست معنية بالسلام ولا المصالحة ولا الوئام.
هكذا وبدون مقدمات يطل رئيس الكونغرس الأمريكي الجديد مايك جونسون المكلف برئاسة الكونغرس قبل شهر واحد في أعقاب عزل كيفن مكارثي، ليتحدث عن الحرب في غزة، وبدا الرجل لا يعبؤ بشيء من الدبلوماسية، وأن الأمر بالنسبة له محسوم تماماً وهو أنه مأمور دينياً ولاهوتياً بالوقوف إلى جانب إسرائيل، وذلك وفقاً لبديهيات عقيدته وإيمانه بالعهد القديم، وبكل صراحة يقول: لقد أبلغت نتنياهو بأننا كمسيحيين مأمورون أن نقف إلى جانب إسرائيل لأنهم شعب الرب!!!
لم يقل حرفاً عن حقوق الإنسان أو العدالة او المواثيق الدولية أو إعلان حقوق الإنسان أو قانون الحرب والسلم، فهذه مجرد ديكورات يوزعها عند الحاجة ولكن المستند الرئيسي لموقفه من الحرب في غزة هو النص التوراتي الذي تجاوز عمره ثلاثة آلاف عام، ويريد الزعيم الأمريكي الذي يقود العصرنة والحداثة والديمقراطية والعلمانية في العالم أن يحتكم إلى هذا النص اللاهوتي بكل ما فيه من عبارات عابرة للعقل والمنطق والحياة والعدل والإنسانية والرحمة.
قد يبدو موقف ابن لادن مفهوماً حين يطلقه من قندهار أو تورا بورا، أو حين يطلقه المحاربون في غزة وجباليا ورفح وبيت حانون، وهم يعيشون أسوأ أشكال الحصار منذ سبعين عاماً، ولكن كيف يمكن أن يكون خطاب كهذا صادراً من أعلى مؤسسة سياسية وديمقراطية في العالم؟ وكيف يمكن أن تقدمه الأمة التي صعدت إلى القمر وأطلقت غوغل ومايكروسوفت وهي تقود جيل الذكاء الصناعي في العالم؟
لقد بات من حقنا أن نتساءل ما إذا كان هؤلاء يعتقدون أيضاً وفق ذلك أن مراكب ناسا الفضائية والترجمة الفورية لمائتي لغة، وتفتيت الحصا بالليزر وغيرها من التقنيات المذهلة تتم عبر عفاريت سليمان كما هو منصوص في العهد القديم!!
لا أريد أن أرى القذاة في عينه وأعمى عن الخشبة في عيني، فكلنا نعاني من تسلط اللاهوت الأسطوري على حراكنا السياسي، ونحن مغموسون حتى الثمالة بخطاب اللاهوت في السياسة، والحرب عند جمهور العرب والمسلمين واجب ديني فرضه الله على أكناف بيت المقدس، والتفسير الأكثر إقناعاً للجمهور العربي في ما يجري هو روايات أشراط الساعة وخبر الغرقد وما رواه البخاري من أخبار الملاحم وتقتلون اليهود وتنتصرون عليهم حتى يقول الشجر والحجر يا مسلم ورائي يهودي فتعال فاقتله….
كل ما تريد هذه المقالة قوله هي أن أوهام القوى الغيبية المسيطرة على أقدارنا ليس خطاب الأصولية العربية وحدها، بل هو الخطاب الرسمي للكونغرس الأمريكي في القرن الحادي والعشرين، والحرب إذن هنا وهناك فريضة إلهية حتمية، وعبادة كتبها الله على الشعبين، وكل سعي لوقف هذه الحروب فهو ردة عن مقاصد هذه النصوص الأصولية المقدسة، داعشياً وأمريكياً!