رامي المفتي – الناس نيوز ::
اللوحة الرئيسية بريشة الفنان السوري الدكتور بطرس المعري.
سري للغاية – من خارج القاموس
(1) من هو اللاطي؟ (تعريف تمهيدي لا غنى عنه) اللاطي ليس معارضاً، ولو كان معارضاً لارتاح، وليس مؤيداً، ولو كان مؤيداً لالتزم. اللاطي كائنٌ يقف في المنطقة التي لا تُحاسَب؛ يتقدم خطوة إلى الأمام حين يكون الكلام آمناً، ويتراجع خطوتين حين يصبح الموقف مكلفاً.
يبدأ دائماً بجملة تطمئنك: “أنا مع كذا وكذا”، ثم يترك فراغاً صغيراً في الهواء، ويُدخل الكلمة التي تختصر فلسفته كاملة: “بس”.
اللاطي لا يعيش على الأفكار، يعيش على الملاحظات. لا يملك مشروعاً، بل قائمة طويلة مما كان يجب ألا يحدث. هذا النص هو محاولة لفهمه، لا لإصلاحه، فذلك مستحيل.

(2) اللاطي الثقافي: حارس الذائقة وعدو المتعة: اللاطي الثقافي مثقفٌ بالاشتباه. يعرف أسماء أكثر مما يعرف معانٍ، ويحمل رأياً جاهزاً في كل عمل لم يُعجبه لأنه أعجب غيره. مثقلٌ بالعبارات الرنانة، والكلمات الصادمة، يعشق الإدهاش والمفاجأة. “لنفرض جدلاً” هي أبسط مصطلحاته، وحين يحمى الوطيس يلجأ إلى (it’s Ok) من غير مقدمات، ليهبط إلى (أنا هاد رأيي) بسرعة الإسهال.
يقول: “الرواية جيدة، بس ما فيها جديد”، “الشعر مقبول، بس تقليدي”، “الفيلم جريء، بس مبالغ فيه”.
اللاطي الثقافي لا ينتج، هو فقط يراجع الإنتاج بعد نجاحه. وإذا أحب الناس عملاً ما، فثق أن اللاطي الثقافي سيعلن الحداد على الذائقة العامة؛ هو لا يكره الإبداع، هو فقط لا يتحمّل أن يفرح الآخرون بدونه.
(3) اللاطي اللغوي: الذي يبحر في الكلمات ويغرق في النوايا هذا من أخطر الأنواع على الإطلاق، لأنه لا يهاجم الفكرة، بل الفاصلة. اللاطي اللغوي لا يسمع الخطاب، هو يفتّش فيه. يفصفص الأحرف، ويُشرِّح الجملة، ويتعامل مع الإعراب كأنه جهاز كشف نوايا. إذا بدأ المسؤول خطابه بعبارة: “أيها السادة!” يقفز اللاطي فوراً: “خطاب ذكوري إقصائي!”، وإذا قال: “نحن قررنا!” اتهمه بالاستعلاء الجمعي. وإذا قال: “سنعمل على…” سأله: “ليش المستقبل؟ ليش مو الآن؟”. اللاطي اللغوي لا يناقش المحتوى، هو يناقش النبرة. يركّز على مستوى الصوت عند كلمة معينة؛ لماذا ارتفع هنا؟ لماذا انخفض هناك؟ لماذا شدد على هذه الكلمة ولم يمدّ تلك؟ قد يُسقط خطاباً كاملاً بسبب حركة يد، أو وقفة نفس، أو تشديد غير مبرر على حرف الراء. اللاطي اللغوي لا يعارض السياسة، هو يعارض الصياغة، وكأن المشكلة ليست في الواقع، بل في التنوين.
(4) اللاطي الاقتصادي و الإداري: خبير ما بعد الانهيار لا يظهر إلا حين ترتفع الأسعار، أسعار الكهرباء أو غيرها. قبلها كان مشغولاً، وبعدها يصبح صندوق نقد دولي متنقلاً. يقول: “كان واضحاً”، “السياسات غلط”، “هي نتيجة طبيعية”. وحين تسأله عن الحل: “إصلاح شامل”. لا أرقام، لا خطة، فقط يقين متأخر.
أما اللاطي الإداري فقد كان حاضراً في كل الاجتماعات، وصامتاً في كل القرارات، ومتألقاً في شرح أسباب الفشل. يقول: “أنا من الأول ما كنت مقتنع”. الغريب أن هذا “الأول” لا يظهر في أي محضر اجتماع.
(5) اللاطي الثوري: نبيُّ ما بعد الكارثة وهنا نصل إلى القمة، إلى التحول الدرامي الكامل؛ إلى اللاطي الثوري. اللاطي الثوري لم يكن ثورياً قبل الخطأ؛ كان عقلانياً، متوازناً، ضد التهور. لكن حين يقع الخطأ الحقيقي، خطأ له نتائج، له ضحايا، له ثمن، ينفجر كبركان حقيقي: “والله كنت متوقع!”، “ما قلتلك!”، “واضح من زمان!”، “صار لازم هالسلطة تمشي!”. فجأة يصبح جذرياً، يطالب بإسقاط كل شيء، رغم أنه لم يطالب بإصلاح أي شيء حين كان الإصلاح ممكناً. اللاطي الثوري لا يقود التغيير، هو يقف فوق أنقاضه، يرفع إصبعه، ويقول بثقة المنتصر بعد الهزيمة: “أنا حذّرتكم”.
ما قبل الخاتمة اللاطي لا يخطئ، لأنه ببساطة لا يبذل جهداً، لا يغامر، ولا يخسر، لأنه لا يلتزم. هو دائماً على حق، ولكن بعد فوات الأوان. فاحذره، ليس لأنه عدو، بل لأنه لا يأتي إلا حين لا يكون لأي شيء معنى.

إضافة توضيحية للتاريخ ولمنع سوء الفهم:
ليس بالضرورة أن يكون اللاطي “واطياً”. فبعض اللاطين – وهذا ما يجب الاعتراف به – مجرد إمعات، يسيرون خلف الصوت الأعلى، والجملة الأكثر تداولاً، وال “ترند” الأكثر دفئاً في تلك الساعة، وربما خلف “مرياعٍ” يحرنُ في مكان ما في جمجمتهم. ومنهم – ولا بأسَ بالقول – الغبيُّ الذي لا خبثَ لديه، لكنه يخلط بين التفكير و”الكفكير”، وبين كثرة الكلام وعمقه، وبين كوعه وبوعه.
الخاتمة اللاطي “برو ماكس”؛ إنه الفصيل الأخطر والطفرة النوعية في مَحميّة اللاطين، الأكثر إثارة للقلق الفكري، الذي يدعو إلى دراسة متأنية ومراقبة واعية لتفشي ظاهرة يصعب علاجها، وقد تتحور إلى مستوى أعلى تطوراً وأكثر تعقيداً. إنه اللاطي طويل الأرجل، الوثّاب، ذو قرني استشعار وعيون مركبة وخرطوم ماصّ، يُقحمه في عقلية مُحَدّثهِ وفي روحه ليمتصَّ طاقته وينفثَ مكانَها فيضاً من سلبيته وتشاؤمه البغيضَين.
هذا النوع طعّمَ كلَّ الأنواع ببعضها؛ يقفز بسرعة البرغوث من حرف إلى حرف، ومن كلمة إلى نبرة، ومن فكرة إلى نصف فكرة أخرى قبل أن تكتمل الأولى أو تُفهم الثانية. ذو بؤبؤ نواسِيّ الحركة، لا يثبت على زاوية ولا على معنى، ولا يستقر على سياق. يرتشف الشاي بسرعة، لا لأن الشاي بارد، بل لأن إحساسه بالحرارة لا يتوافق مع الأفكار التي يعالجها في اللحظة ذاتها. يأكل لا لجوع، بل لرغبة بالإقياء، ويضحك لا لفرح، بل ليستهل فحيحه بما يجذب الأنظار.
مواضيعه قصيرة، كثيرة، متعددة، ولا يصل أيٌّ منها إلى نهايته الطبيعية.
يبدأ بنقطة، يقفز إلى فاصلة، يتعلق بعلامة تعجب، ثم يغادر الجملة كلها معلناً انتصاره التحليلي. هذا اللاطي لا يملك وقتاً للفهم، ولا صبراً للتركيب، ولا شجاعة للوقوف عند فكرة واحدة حتى نهايتها.
إنه دائم الحركة، كثير الانتباه، عديم التركيز، ويظن أن السرعة ذكاء، وأن القفز براعة، وأن كثرة الملاحظات موقف. وهكذا، لا يكون اللاطي دائماً شريراً، ولا دائماً ذا خطة، لكنه – في جميع الأحوال – خطِرٌ حين يُصدَّق، ومُرهِق حين يُتَابَع، ومضحِك حين يُكتَب عنه.
الكاتب السوري رامي المفتي – شاعر ومعتقل سابق في سجون تدمر وصيدنايا.

الأكثر شعبية

معارك الظل في سوريا… محاربة “داعش” وإعادة بناء الدولة!

“اللاطي”… سوري عربي عالمي!


