د. ممدوح حمادة – الناس نيوز :
أغلقت العاصمة أبوابها أمام المايسترو منذ أعوام كثيرة، تمكن هناك من اختراق الكازينوهات والعزف فيها، وعزف كذلك في الأعراس وفي السهرات ولكنه لم يتمكن من اختراق حصون الثقافة التي تعذر عليه اقتحامها فلم يستطع تحقيق حلمه بالوقوف أمام النوتة فوق المنبر والإشارة بعصاه لفيلق من الموسيقيين اجتمع أمامه على الخشبة.
عاد إلى بلدته وافتتح دكانا صغيرا استسلم فيه لقدره المحتوم ونسي الموسيقى تماما، ولكن في يوم الخميس الواقع في العاشر من تموز جاءه أبو طارق الذي يعمل في البلدية وبعث الحياة في حلمه الذي كاد يلفظ أنفاسه الأخيرة.
• اليوم يومك يا “سنباطي”
هكذا كان يسميه أبو طارق الذي أخبره والفرح يعلو وجهه، أن السيد الرئيس سيقوم بزيارة لمركز الناحية، وأن البلدية تكلفه بافتتاح الحفل الذي ستنظمه، وأن الحفل سينقل في بث حي ومباشر على جميع القنوات، ولم ينس أبو طارق الحديث عن الدور الحاسم الذي لعبه في دعم ترشيح المايسترو لهذه المهمة، ولم ينس كذلك ان يذكره بأن أبواب السماء ستنفتح أمامه إذا أعجب السيد الرئيس بعمله وضرب له الكثير من الأمثلة التي سمعها عن مكرمات حصل عليها أشخاص ساقهم القدر إلى درب الرئيس وكيف انقلبت أحوالهم من أسفل إلى أعلى فبعد أن كانوا موظفين أنصاف شحاذين أصبحوا أصحاب شقق في العاصمة وملاك سيارات مارسيدس بدون جمركة:
• أرأيت هذه المرسيدس التي يصدعون رأسنا بها، لا تساوي قروشا بدون جمرك.
صمت أبو طارق للحظة ثم أردف:
• يا سيدي، وإن كنت لا تريدها تبيعها، ربما يأمر السيد الرئيس بتعيينك مديرا للمركز الثقافي .
وربما وربما وربما، استرسل أبو طارق وهو يصف الجنة التي سيعيش فيها المايسترو بعد أن يشاهده الرئيس.
لم يتسع قلب المايسترو للفرح الذي دب في أوصاله فأصيب بضيق في التنفس وشعر أن رجفة تسري في مفاصله وأن روحه توشك أن تفر من أذنيه ولكنه تمالك أعصابه وأرغم نفسه أن تبقى على قيد الحياة، فقط حتى يحقق حلمه على الأقل.
أغلق الدكان وتوجه إلى البيت، أخرج بدلته السوداء الخاصة بقيادة الأوركسترا وعصاه، ونبش نوتاته من بين الكتب المكدسة على الرفوف وأخذ ينتقي منها ما يلائم الحفل المنتظر.
في الصباح كان أعضاء الفرقة الموسيقية الذين جمعهم أبو طارق من مركز الناحية والبلدات المحيطة، يتحلقون حول المايسترو على الخشبة بسلاح الميدان الموسيقي الكامل، ورغم أن عددا كبيرا من الآلات لم تكن موجودة في تلك الفرقة إلا أن المايسترو قرر أن يخوض التجربة: (بغانيني عزف على الكمان بدون قوس)، فكر المايسترو في نفسه ورفع عصاه وأعطى إشارة البدء.
الصعوبة كانت كبيرة في البداية فعازف الإيقاع لم يكن يعرف النوتة ولكن المايسترو استطاع أن يروضه عبر جلسات منفردة أقنعه خلالها أيضا أن يعرّف عن نفسه بأنه ضابط إيقاع وليس (دقّيق) دربكة، عازف العود بسبب عجزه عن الانسجام مع الأوركسترا أراد أن يعتذر عن المشاركة بحجة أنه مبدع ولا يقبل أن يأمره أحد، ولكن أبو طارق طبع قبلة على ذقنه وقال:
• شو بنا فريد .. كرمال أبو طارق هالمرة.
كان أبو طارق يلقبه بـ (فريد) تيمناً بفريد الأطرش، عاد عازف العود إكراما لأبي طارق، وحصلت مشاكل كثيرة مع كثيرين غيره ولكن بصبر المايسترو وترغيب أبي طارق وترهيبه في أحيان أخرى تم التخلص من هذه المشاكل وتذليل كافة العقبات، وبعد شهر من التدريب المتواصل كانت أمام المايسترو مجموعة يمكن بشكل ما، أن نسميها أوركسترا.
في اليوم الموعود حط السيد الرئيس رحاله في مركز الناحية ، وعند وصوله إلى باب المركز الثقافي كان المايسترو في مكتب المدير يتابع اتصالاته بكل أقاربه ومعارفه الذين يملكون أجهزة فيديو لكي يولفوا التلفزيون على القناة الأولى والفضائية ويسجلوا له الحفل، دخل أبو طارق ممتعضاً وشده من ذراعه قائلاً:
• وينك يا أخي سيادة الرئيس صار عالباب.
ثم أخذ السماعة من يد المايسترو وأقفل الخط قبل أن يكمل حديثه، ركض المايسترو عبر الكواليس وصعد إلى الخشبة وخلفه أبو طارق الذي أوصاه:
• بس يبين عالباب بتعطي الإيعاز.. بدي كل شي منظم عالتكة.
ظهر سيادته بباب القاعة فحرك المايسترو عصاه في الهواء وانطلقت السمفونية، شعر المايسترو أن الأرض تتنفس وأن قلبها الذي يخفق بشدة يقع تماما تحت المنبر الذي يقف عليه، وكان يحس أن علامات المدرج الموسيقي التي تحلق في فضاء المسرح هي الأكسجين الذي كانت تستنشقه الأرض فتنبعث تحت سطحها الحياة، وعندما أمسك أبو طارق بذراعه وشده إلى الخلف ظن أن ذلك واحداً من الانفعالات التي كان يشعر بها، ولكن صوت أبي طارق الذي جاءه من الخلف :
• لحظة.. وين وين وين.. على مهلك..
جعله يستفيق من تخيلاته، التفت المايسترو نحوه وتوقفت الموسيقى وكان الوفد لا يزال يوزع التحيات لجماهير المسرح التي وقفت على جانبي الممر، فقال له أبو طارق مشيرا إلى وسط الصف الأول:
• بتعرف إنه سيادته رح يقعد هون؟
• بعرف.
• وطالما بتعرف ليش أخذت هالوضعية؟
• أيا وضعية؟
• ليش دايرله ظهرك.. هيك منستقبل الضيوف نحنا؟
استغرب المايسترو هذه الملاحظة من أبي طارق وحاول أن يشرح له:
• يا أبو طارق.. بكل العالم المايسترو بيكون وجهه للأوركسترا وظهره للجمهور.. عادي..
نفض أبو طارق بقفا يده في الهواء بغضب:
• شو بدنا بالعالم نحنا.. مو كل شي بيوردولنا إياه بدنا ناخذه متل ما هوه.. العلم والتكنولوجيا على راسي.. بس عاداتنا وتقاليدنا لأ.. ما بيصير.. هي اسمها غزو ثقافي..
انفعل المايسترو قليلا ولكنه كتم انفعاله:
• كيف يرى الموسيقيون إشاراتي إن ادرت لهم ظهري؟.. ما بتزبط يا أبو طارق.
• بتزبط.. صرلهن شهر عم يتمرنوا.. حفظوها بصم.. ليسو حميرا.
أفلتت انفعالات المايسترو من عقالها وقال:
• ما بيصير يا أبو طارق…
لم يستمع أبو طارق إلى كلام المايسترو وقاطعه قائلا:
• لا تعملي بيصير وما بيصير.. قسما بالله العظيم يا بتدير وجهك للوفد يا بقطع الكهربا وبلغيلك نمرتك كلها.
ثم حمل النوتة ووضعها في الجهة الأخرى وقال له:
• بلِّش.. الجماعة قعدوا..
وانصرف مبتعدا.
رضخ المايسترو للأمر الواقع وأخذ يعطي إشاراته باتجاه الجمهور فانحنى رئيس الوفد باتجاه مدير الناحية وهمس سائلاً:
• شو.. فقرة كوميدية؟
• لأ.. سيمفونية..
• لكان ليش هذا داير ظهره للفرقة؟
أشار مدير الناحية لأبي طارق فركض باتجاهه حانيا ظهره لكي لا تلتقطه العدسات وقرفص أمام مدير الناحية:
• خير سيدي؟
• مالقيتوا غير هالجحش تجيبوه يمسك الأوركسترا.. طلاع قله يستعجل شوي بالسيمفونية تبعه ويفرقنا.
صعد أبو طارق إلى المسرح بسرعة وتوجه إلى المايسترو وهمس في أذنه:
– خف رجلك شوي وختوم نمرتك.. سودت وجهنا الله يسود وجهك.