ميديا – الناس نيوز ::
سامح المحاريق – القدس العربي – كثير من المواقف السياسية التي تتخذ في المنطقة العربية قائمة على مرويات تاريخية، ويتشكل المزاج العام تجاه الأحداث المختلفة، من خلال منظور خدمتها للماضي، وقدرتها على استعادة لحظات داخله، أصرت السردية الجمعية على أنها لحظات مشرقة، وتستطيع أن تعبر عن المجتمعات العربية في كل زمان ومكان، وبذلك خرجت الحركات القومية بمقولة الأمجاد المتوجب عيشها من جديد، من غير أن يرتبط ذلك بالتدقيق اللازم لتفهم طبيعة الحدث التاريخي وسياقاته.
العرب شغوفون بالبطل إلى حد بعيد، والبطل ليس بالضرورة هو الشخصية التاريخية، بقدر ما يمثل الضرورة الدرامية، فالمؤرخون العرب بدأوا حكواتيةً بالمعنى الحرفي، والحكاية تتطلب مجموعة من الشخصيات الرئيسية، والحكاية من أجل أن تصل إلى غايتها يجب أن تكون بين الأبيض والأسود، بين الخير والشر، وكان المؤرخون يعملون على تسكين الشخصيات التاريخية في الخانات الدرامية اللازمة، ويغفلون طبائعها الإنسانية التي هي من طبيعة أي شخص في أي سياق، والمؤرخ الحكواتي ليس معنيا حتى بالمشاعر الباطنية، أو الدوافع الخفية، هو يقدم مسرحه التاريخي ويلقي على خشبته الأشخاص ويعمل على وضع حواراتها، وعندما يأتي المؤرخ، الذي يفترض أن يقوم بالتمحيص، فإنه لا يجد سوى المادة الخام، التي صنعها التعلق العربي بتقديم النموذج الذي يفهمه ويستوعبه.
يعيش العرب حالةً من الانتظار لشخصية مماثلة لصلاح الدين الأيوبي، على أساس منجزه الكبير في تحرير مدينة القدس بعد معركة حطين سنة 1187 ويتناسون أن التحرير لم يكن ناجزا، وأن المحافظة عليه تطلبت التخلي عن الساحل الفلسطيني للفرنجة لسنوات، وأن الدولة الأيوبية، لم تعمل مطلقا على تمتين الانتصار، من خلال إصلاحات داخلية، ومن خلال تقديم نموذج حكم مغاير عن النموذج السائد نفسه، الذي أدى إلى تغول الفرنجة في الأراضي المقدسة، ولذلك عادت القدس من جديد للسيطرة الفرنجية مع الملك فريدريك الثاني، الذي تسلم المدينة من غير قتال أو مقاومة، وبلغت مجاملته إلى حد الأمر بعدم رفع الأذان أثناء وجوده في المدينة، إلا أن الملك نفسه هو الذي طلب أن يرفع الأذان، فما الذي قدمته التجربة الأيوبية، ولماذا تجاهل المسلمون في مروياتهم العديدة، خاصة الشعبية منها تمكن الخوارزميين من تحرير القدس فعلياً سنة 1244، هل لأنهم لم يستطيعوا تقديم واقع اختزالي يتمثل في أشخاص معينين، ولم يتمكنوا في ظل ظروفهم السائلة وسط المشرق العربي، أن يعملوا على استمالة المؤرخين/ الحكواتية؟ البحث عن البطل المفرد وسط المشهد المعقد، والسعي لكتابة سيرة جديدة مثل السيرة الهلالية وسيرة سيف بن ذي يزن، كان يدفع بأي شخص مهما كانت قيمته ثانوية ليتمكن من خلال إدراكه لضرورة مسرحة الحدث التاريخي من الوصول إلى ذروة السلطة، وحدث ذلك مع محمد علي بعد رحيل الفرنسيين عن مصر، مع أن المقاومة الشعبية تحركت من صغار طلاب الأزهر، بعد أن هرب المشايخ إلى خارج القاهرة، ومن فئات اجتماعية مهمشة مثل العميان الذين اشتبكوا مع الفرنسيين بشجاعة أهملتها كتب التاريخ.
المثقف العربي في صورته القديمة، الذي امتلك بعضا من القدرة على القراءة والكتابة والتعامل مع المرويات من خلال التعليم الديني، كان يمثل الرافعة لهذه المرويات الاختزالية التي جعلت العرب بصورة مستمرة شعبا غرا وساذجا في تفهمه للتاريخ، ومع تقدم أدوات المثقفين، واطلاعهم على منهجيات البحث والتمحيص والتدقيق، إلا أن دورهم لم يتغير كثيرا وبقيت العلاقة نفسها، التي تحكمهم بالسلطة، سواء السلطة المهيمنة أو السلطة المنافسة والطامحة، وإلى اليوم لم يتمكن المثقفون العرب من التعامل بصورة نقدية مع التاريخ، وحتى عندما يتعاملون مثل هادي العلوي وطه حسين والصادق النيهوم، فإن السلطة الثقافية من خلال مؤسساتها وأدوات المنح والهبات والعطايا، تعمل على وأد جهودهم وتمييع أثرها وإبقاءها حبيسة في بعض الجدالات الهامشية، التي لا يمكن أن تصنع رواية تاريخية تمكن من استكشاف الشخصية العربية ومعاينة البنى القيمية التي ترافقت مع نموها داخل التاريخ. بقيت الذهنية العربية تفضل الفرجة على التاريخ لتعود أدراجها تتحدث عن أبطاله ومفارقاته، ولكنها لم تؤمن بقدرتها على صياغة التاريخ، ولم تمتلك الوعي بقدرتها على التأثير في التاريخ ومجرياته، لأن شروطا مسبقةً مثل تعريف المجد أو العار، بقيت محصورةً في السلطة وفي توجهاتها وفي التقاليد المؤسسة لقراءة التاريخ الذي يزيف أحيانا أمام أنظار الجميع، من أحمد سعيد في صوت العرب، وهو يبشر باندفاع الجيش المصري إلى تل أبيب، إلى سعيد الصحاف وعلوجه الذين دخلوا بغداد بعد أيام من تهديداته الصاخبة، وفي هوامش المفاجأة والفجيعة والإحباط الذي ينتج عن واقع متمثل في الدمار والخراب الذي يحيط بالفرد العربي، تبدأ نظرية المؤامرة تعتمل لسد الفجوات والعودة بالدراما التاريخية إلى الحد الأدنى من قدرتها التغيبية وتعزيز سلبية المتفرج.
الانتقال إلى مواطن الإضاءة في مسرح التاريخ بوصفه السياق الذي يشمل الماضي والمستقبل معا، يتطلب بدايةً فهما لطبيعته الماكرة وارتباطه بالجغرافيا وبأسعار المعادن والمحاصيل وتفضيلات المستهلكين، والبحث عن موقع يدخل العرب التفاعل بدلا من بقائهم ممرا يتفرج سكانه على العالم الذي يتقدم بصورة مطردة ويبقون أنفسهم يستمعون للسيرة الهلالية ويصرخون إعجابا لأحداث سمعوها ألف مرة قبل ذلك، ومعظمها لو توقفوا عند التفكير إما خاطئ أو مضلل.
كاتب أردني