د . أحمد برقاوي – الناس نيوز ::
اللوحة الرئيسة للفنان عصام طنطاوي .
ما من كفاح من أجل التجاوز يمكن أن يجري من دون حضور المثقف المنتمي إلى هذا الكفاح.
فالحقيقة النظرية التي يعززها التاريخ تقول إن وراء كل ثورة تجاوز نحو الأرقى عقلاً يفكر.
ولا شيء يشفع للمفكر والأديب وللمثقف العضوي عموماً أن يقول قولاً فجاً غليظاً ومكروراً ولا يضيف قيمة معرفية أو جمالية لإرادة التاريخ.
وليس من شيمة المثقف صاحب الهم الكلي أن ينسى أس الظواهر وأسبابها العميقة. أقول ذلك لأني وجدت بعض الأقلام ولا أدري إن كان أصحابها بنية حسنة أوسيئة تشير إلى المثالب المتولدة عن الثورات العربية، وكأن لسان حالها يقول: أما كان من الخير أن يبقى الواقع كما هو!
والحق أن كل ما يحصل من تفتق المجتمع عن سلبيات إنما كانت قابعة في المجتمع بسبب السلطة نفسها.
ما الذي يمكن توقعه من مجتمع حرم من الحرية والتنظيم المدني والتنظيم النقابي الحر والتنظيم الحزبي الطوعي في حال ضعف السلطة المتخلفة حد الانهيار؟
لهذا فالثورة أي ثورة ليست تجاوزاً للسلطة فحسب بل تجاوزاً لكل ما أنتجته السلطة عبر تاريخ قمعها الطويل وهذا أمر يمر عبر عذابات شديدة قبل أن ينشأ العالم الجديد.
وأخطر ما يواجهه مخاض التاريخ صراع المتشابهين منطقاً وسلوكاً. وواهم من يظن أن التاريخ تصنعه قوة مناقضة مشابهة في وعيها وسلوكها لعدوها.
فالصراع بلا تناقض حقيقي أساسه التناقض بين الحرية والطغيان صراع من أجل الموت ليس إلا. وترفع المثقف عن الدخول طرفاً في الصراع الحقيقي يعني أنه صار طرفاً في صراع المتشابهين.
فالبنية النفسية وأنماط السلوك والذهنية التي تكونت داخل بنية الحكم الدكتاتوري البغيض تحولت شئنا أم أبينا إلى حالات عامة، ولا يمكن الوصول إلى تحطيم البنية إلا بإنجاز قطيعة مع هذه البنية النفسية والذهنية التي تكونت عبر نصف قرن.
فالوجود الزائف لا يليق بمن انتدب نفسه لصناعة التاريخ
يرى الفيلسوف الألماني الشهير هيدجر أن هناك نوعين من الوجود: الوجود اﻷصيل والوجود الزائف.
الوجود اﻷصيل هو وجود الذات في الهم الكلي في القلق في التخلي عن العابر. فيما الوجود الزائف هو اﻹندراج في عالم اللغو والنميمة والبحث عن الشهرة الزائفة.
ونقول: في الوقت الذي ينشغل فيه الوجود اﻷصيل بفكرة المصير والكرامة اﻹنسانية ويحول قلقه الوجودي إلى إبداع ينشغل الوجود الزائف ذو الوعي المنحط بالبحث عن حضور عابر متوسلاً بذلك الكذب والهراء.
ويظهر هذا الفرق بين الوجود الأصيل والوجود الزائف أكثر ما يظهر في اللحظات الحاسمة من التحول التاريخي كلحظة الثورات مثلاً.
إذ يسعى الوجود اﻷصيل إلى الكشف عن المعنى مندرجاً بالهم الكلي عائشاً عذابات البشر رافعاً القيمة الأخلاقية للكفاح الإنساني. وجاعلاً من هم المصير كما يجب أن يكون همه الفردي.
أما الوجود الزائف الذي يعلن انتماءه للجديد المتجاوز ويغرق في الشتائم واللامعنى مظهراً غيرة زائفة لإخفاء خنوعه الطويل الذي تحول إلى حالة عدوانية تجاه الآخر المختلف فهو عثرة على دروب التجاوز.
لا يحق لأي مثقف أن يعلن حضوره الثائر مع الاحتفاظ بلغة الذهنية التي كونت تفكيره وقيمه.
بل يجب أن ينتقل إلى لغة الوجود الأصيل، لغة المعنى، إلى اللغة الجميلة والحارة، لغة الوجدان الصادق.
أما إذا ما احتفظ بلغة الوجود الزائف اللغة السوقية التي حياة فيها ولا منطق فإنه عملياً يعلن موته بموت اللغة.