شكله من الخارج يوحي بأن كل هموم الأرض قد تربعت فوق كتفيه، عيناه الحزينتان، نبرة صوته الذليلة، بنطاله الذي مح لونه في عدة أماكن، قميصه الأزرق الذي خرجت من أطراف كميه وياقته تلك الخيوط التي توحي بأن قماشه لم يعد قابلا للغسيل، كل شيء يوحي بأنه من المعذبين في الأرض، أما مشكلته الآن فهي تعرضه لعملية نصب بمبلغ 20 ألف دولار منها عشرة آلاف دولار نقدا وسيارة قدرت قيمتها بستة آلاف دولار، وقطعة أرض خارج المدينة قدرت قيمتها بأربعة آلاف دولار.
- من البداية.. كيف تعرفت على المتهمين يا بانتيلي
طلب القاضي من بانتيلي الحديث فتململ بانتيلي قليلا ومسح عرقا تسرب إلى جبهته وازدرد لعابه ثم قال بنبرة لا تخلو من الحرج:
- تعرفت أولا إلى أحمد..
- كيف تعرفت إلى أحمد؟
- عرفني إليه صديق اسمه تيموفي.
- ولماذا عرفك عليه تيموفي؟
- تيموفي قال إن أحمد لديه معارف يحتلون مناصب.. ويمكن أن يساعدونني في حل مشكلتي.
- وما هي مشكلتك.
تململ بانتيلي وتلفت فيما حوله وكأنه يبحث عن حفرة يدفن فيها رأسه، مما دفع بالقاضي لطرح سؤاله مرة أخرى:
- ما هي مشكلتك يا بانتيلي.
- الرافعة.. الرافعة يا حضرة القاضي.. أقسم لك إنها لا تساوي كوبيكات.. وفي نهاية العام كانت ستسجل كخردة ويتم رميها في مزبلة الحديد.. كما أنها لا تستخدم
هنا قاطعه القاضي وأمره بالحديث في صلب الموضوع:
- هذه قضية منتهية يا بانتيلي تمت إدانتك فيها وسجنت بسببها عامين..
- ظلما وعدوانا – قاطع بانتيلي القاضي وتابع- أنا أعطيتها للجماعة من منطلق إنساني لكي يستفيدوا.. ولم أعطها من أجل مكاسب شخصية.
ثم تلفت فيما حوله وكأنما يطلب دعم الحضور فيما يقول:
- آلة متوقفة تحت المطر والثلج.. منذ عشر سنوات لم تعمل.. أكلها الصدأ، اليس من الأفضل أن يستفيد منها المواطن.. فائدة المواطن في نهاية المطاف هي فائدة للوطن ككل.
دق القاضي بالمطرقة على الطاولة وصاح:
- لا تصور نفسك ملاكا يا بانتيلي.. لقد قبضت ثمن الرافعة خمسة عشر ألف دولار..
- نعم.. هذا صحيح.. أصر الجماعة أن يعطوني المبلغ.. يمكن القول بأنني قبضت المبلغ عنوة.
- حسناً.. دعك من الرافعة الآن فقد انتهينا منها، أخبرنا ماذا حصل لاحقا مع أحمد.
- حسناً سيدي القاضي.. ولكنني أؤكد لك أن لجنة التخمين ليست محقة بتقدير ثمن الرافعة.. لقدا وضعوا لها ثمن رافعة جديدة، مع أنها تقريبا خردة.
ضرب القاضي على الطاولة ولكن بيده هذه المرة وصرخ غاضبا:
- لا تخرج عن الموضوع يا بانتيلي.
- حسناً سيدي القاضي.. أنا آسف.. ذهبت أنا والمحاسب إلى أحمد
- من هو المحاسب؟
- المحاسب هو تيموفي.
- هل كان يعمل محاسبا؟
- لا.. كانوا يلقبونه هكذا.
- من كان يلقبه هكذا؟
شعر بانتيلي أنه أخطأ عندما ذكر كلمة (المحاسب) وتململ مجددا وحك رقبته من الخلف تحت قبة القميص:
- هناك كانوا يلقبونه هكذا.
- أين هناك؟
- في السجن- قالها بانتيلي وكأنه يبق بحصة من فمه ثم تابع في حملة دفاع عن صديقه- ظلما وعدوانا.. لم يسرق شيئا.. كان يعمل حارسا في الشركة.. في أحد الأيام اكتشف أن مكتب المحاسب مفتوح فدخله.. من باب الفضول.. فوجد الخزنة مفتوحة فنظر فيها من باب الفضول.. كل من يعرف تيموفي يعرف أنه فضولي…
- كفى – ضرب القاضي بالمطرقة وتابع – لا تخرج عن الموضوع.
- حاضر سيدي القاضي.. أنا فقط لكي لا تظنوا الظنون بتيموفي.. فهو إنسان شريف.. ولكن وقع في المصيدة.. شاهد النقود.. نقودا كثيرة لم يتمكن من المقاومة.
- قلت كفى.. تابع ما الذي جري بينكم وبين أحمد لاحقا.
- نعم.. ذهبنا إلى بيت أحمد وشرحنا له القصة…
- أي قصة؟
- قصة الرافعة.
- التي سرقتها؟
- هي ليست سرقة بالمعنى الحرفي للكلمة، هكذا تم تفسيرها من قبل المحقق.. طبعا فلديه خطة سنوية.. يجب أن يقبض على عدد معين من اللصوص.. فإن لم يعثر عليهم يخترعهم لكي يترفع.
- بانتيلي..- صرخ القاضي.
- نعم سيدي القاضي.. نعم.. أحمد قال لنا إن لديه معارف ذوي مناصب عليا في السلك القضائي وسلك الشرطة.. وضباطاً ذوي رتب عالية جدا.. يفكون المشنوق.
- وهل عرفكم على أحد من هؤلاء الذين يفكون المشنوق؟
- نعم هذا الشخص الجالس قربه في القفص سيريوجا.. قال إنه لواء في الشرطة ورئيس قسم مكافحة الجريمة المنظمة.
- وماذا حصل بعد ذلك؟
- قال إنه يريد مبلغ عشرة آلاف دولار.
- وماذا قلت.
- قلت له إن هذا رقم كبير.. فقد تم الحجز على أموالي بسبب الرافعة.
- وماذا قال لك؟
- هذا رجل لديه استعداد أن يمص دمك يا سيدي القاضي إن وقعت في براثنه.. لم يبد أي نوع من التعاطف معي.. أصر على المبلغ.
- وماذا فعلت؟
- جمعت كل ما تملكه زوجتي و ولداي وأختي وزوجها وأخت زوجها.. وجمعنا الملبغ.
- ولماذا كان يريد هذا المبلغ.
- لم أسأله .. فكرت أنه طالما يريد مساعدتي فلتذهب النقود إلى الجحيم.. حريتي تساوي أكثر من ذلك.
سكرتيرة المحكمة تسجل في المحضر مرددة ما تكتبه على غير عادتها:
- رشوة بمبلغ عشرة آلاف دولار.
مما جعل بانتيلي ينتفض خلف منبر الشهود:
- لا يا سيدتي.. لا.. ليست رشوة.. من قال إنها رشوة.
- ماذا إذا؟
سأل القاضي بنبرة صارمة.
- ما أدراني أنا يا سيدي القاضي.. ربما يحتاج المبلغ لأمر ما ولكن ليس رشوة.. ليس بانتيلي بالمواطن الذي يدفع الرشاوى.. حتى لو كان حبل المشنقة سيلتف على عنقه.
- حسناً هذا غير مهم الآن.. تابع
- لا يا سيدي القاضي.. لقد علمتني التجربة أن أتوقف عند كل كلمة.. فلتصحح السيدة السكرتيرة الكلمة.. فلتشطب مفردة الرشوة.. لأن العشرة آلاف دولار التي قدمتها لهذا الشخص ليست رشوة.
- حسناً أيتها السكرتيرة قومي بصياغة العبارة بشكل آخر.. كما تفوه هو بها.
تقوم السكرتيرة بالتصحيح بينما يتابع القاضي:
- وهل أحضرت له المبلغ؟
- نعم في اليوم التالي.. لم يترك لي فرصة.
- وهل كان هناك أحد حين سلمته المبلغ؟
- نعم.. أحمد ولكنه ينكر لأنه صديقه.. وايفان.
- وهل ايفان على استعداد ليشهد بذلك.
- نعم سيدي القاضي.. ايفان لا يكذب.
- حسناً .. ما هو عنوان ايفان لكي نستدعيه في المرة القادمة.
يتنحنح بانتيلي عندما يسأل عن عنوان ايفان ثم يردف:
- شارع الثورة منزل رقم سبعة عشر على ما أعتقد، ولكن لا أعرف رقم الغرفة.
- هذا عنوان السجن المركزي.. هل ايفان في السجن المركزي الآن؟
- نعم.. لفقت له تهمة هو بريء منها وهو الآن يدفع ثمن.. يمكن القول ثقته المفرطة بالناس الذين لا يستحقون ذلك.
- وما هي تهمة ايفان؟
- تلك التي تنص عليها المادة ثلاثمئة وواحد وعشرون البند الثالث.. ظلما وعدوانا.
- سطو مسلح.
عقب القاضي فظهرت ملامح الازدراء على وجه بانتيلي ورد قائلا:
- لا مسلح ولا بطيخ.. الله وكيلك يا سيدي القاضي.. سكين صغير يحمله الرجل من أجل تقشير التفاح.. جعلوا منه سلاحا أبيض.. مسخرة.
يتوجه القاضي إلى السكرتيرة:
– أرسلي مذكرة لكي يحضروه للشهادة في الجلسة القادمة.
– حاضر سيدي القاضي.
هنا نكس بانتيلي رأسه وتوجه للقاضي بطلب:
- سيدي القاضي.. هلي يمكن أن أتقدم بطلب؟
- ما هو؟
- إذا كان هناك مجال أن لا أكون حين حضور ايفان.
- لماذا؟
- هكذا.. خلافات شخصية بسيطة لا قيمة لها.
- مع ذلك يجب أن أعرف ما هي لكي أقرر.
- ببساطة يا سيدي القاضي.. هذا الأحمق إيفان يظن أنني أنا من وشى به.
- في قضية السطو المسلح؟
- لا.. في قضية أخرى قديمة.. بلغ عنه عبر الهاتف شخص باسم مستعار.. ظن أنني هو.
- ولمذا ظن ذلك؟
- لأن أحدا غيري وغيره لا يعرف بالموضوع.
- وبأي تهمة
- المادة سبعمئة وثلاث وأربعون البند الخامس (آ).
- خلع وكسر.
- يكتبون ما يحلو لهم في محاضر التحقيق.. الله وكيلك يا سيادة القاضي سقط الباب من تلقاء نفسه.. كان على آخر نفس.. لم يكن ينقصه غير شخص ينفخ عليه لكي يقع.. مثل هذا الباب لا يحتاج لا إلى خلع ولا إلى كسر.. الله وكيلك.
- ولماذا أخبرك ايفان في ذلك الوقت ولم يخبر غيرك؟
- ايفان لم يخبرني.. ايفان لا يثرثر..
- كيف عرفت إذا؟
- كنت معه.. وسجنا معا.. ربما كانت السافلة هي التي بلغت عني وعنه.. لقد أفشيت لها بالسر وقتها.
- من هي السافلة؟
- زوجتي السابقة.. سألتني من أين النقود وأنا لحماقتي أخبرتها.. كان يمكن أن اقول أي كلام فتصدقه.. ولكنني لحماقتي قلت لها الحقيقة… غير أنني تعلمت درسا.. فهمت بعد ذلك.
- ماذا فهمت ؟
- إياك ثم إياك أن تثق بشخص يكن لك الضغينة .. خاصة إذا كانت امرأة، فالمرأة كائن حقود، لا يسامح، أي نعم إنه يضحي بروحه إذا أحب ولكنه أفعى أكثر من رقطاء إذا حقد.
- ولماذا تكن لك زوجتك الضغينة.
- بسبب الأفعى أمها، ادعت أن ملثمين دخلا عليها ليلا وسلبا ثروتها .. هه لو تدري يا سيدي القاضي عن أي ثروة تتحدث .. قروش.. أربعة آلاف روبل وسيادتكم تعرفون قيمة الروبل .. هذه الأربعة آلاف لا تساوي نكلة..وخمسة وخمسون دولارا وواحد وعشرون يورو وعشرة جنيهات إسترلينية.. ومئة مارك ألماني .. هذه الغبية فقدت الماركات قيمتها وهي تحتفظ بمئة مارك، ألم يكن من الأفضل لو أنها أعطتها لابنتها عندما كان لها قيمة، اصدقني القول يا سيادة القاضي، أليس من الأفضل أن تعطي ابنتها هذا المبلغ بدلا من دفنه فوق الباب جاعلة منه طعاما للفئران.
القاضي هنا حدق به مليا ثم سأله:
- وما علاقتك أنت بهذا السطو؟
- الشمطاء اتهمتني، قالت في شهادتها إنني كنت واحدا من اللصين، كيف يمكن لها أن تعرف أنني واحد منهما وهما ملثمين؟ بربك يا سيادة القاضي، ثم لنفترض أنني أنا ضعفت نفسي فأقدمت على ذلك، أيستحق الأمر التبليغ ضد صهرك، وهل كنت لأصرف النقود على جارتنا فيما لو كنت اللص فعلا؟ كنت سأعلف ابنتها لو أنني فعلا كنت السارق، ولكن حمقاء مثل حماتي عاجزة عن فهم ذلك، جلسنا أنا وكريشا ثلاث سنوات وأنا خسرت زوجتي وأولادي، دخلت السجن عندي زوجة وبيت وأسرة وخرجت منه مشردا لا زوجة ولا بيت ولا أسرة، أهذا هو العدل يا سيدي؟ هل تستحق المبالغ التي تحدثنا عنها تحطيم أسرة؟
- من هو كريشا؟
- شاب مثل طربون الحبق، يمكن القول إنه فقس من البيضة للتو ادعى المحقق أنه شريكي في السطو، عثروا مع المسكين على قطعة نقدية مسروقة…
- وما الذي جعلك تبوح لزوجتك وقد طلقتك بعد السطو على والدتها.
- كنت أريد الاختباء عندها، ظننت أنها ستصون الخبز والملح، صحيح أننا تطلقنا ولكن بيننا خبز وملح وولدان اثنان، أأذهب إلى الغريب وأترك من هم أهلي عمليا؟
- تختبئ ممن ؟
- من الشرطة، وممن يمكن أن يختبئ الرجل في بلادنا سوى من الشرطة.
- ولماذا كانت الشرطة تلاحقك؟
- كنت قد احتسيت قرابة نصف زجاجة من الفودكا في الحديقة أنا والأحمق شورا وخرجنا من هناك لنكمل عند شورا.. فشاهد هذا الأحمق سيارة فيها مفاتيح فقرر المعتوه أن يسرقها، ولكن لا ليس شورا المعتوه بل ذلك الذي ترك السيارة مفتوحة، بربك يا سيدي القاضي هل يترك أحد في هذا الزمن سيارة مفتوحة؟
- ماذا حصل بعد ذلك؟
- نصحته لا داعي لذلك يا شورا، إن ما تنوي فعله جريمة سرقة يا شورا، ولكنني كنت كمن يحدث جدارا، وأكاد أجزم أنه ليس هناك في العالم شخص أعند من شورا.
- ولماذا لاحقتك الشرطة إذا كان شورا هو اللص؟
- شورا المعتوه لا يتقن قيادة السيارة لذلك وبعد إلحاح من هذا الأحمق جلست أنا في مقعد السائق وإذا بصاحب السيارة يركض من مكان ما ويصيح ورجال الشرطة ينبثقون من الأرض ويركضون ناحيتي، المعتوه شورا لم يكن قد صعد إلى السيارة بعد ولذلك انصرف دون أن يمسه أحد بسوء، تركوا اللص الحقيقي وأخذوا يركضون خلف الرجل البريء فلم أجد مكانا أفضل من المكان الذي كان يوما ما شقتي، كنت أظن أن لوسا قد نسيت حقدها بعد هذه السنين ولكن لا.. فقد سكبت لي الحقيرة الفودكا لكي أطمئن وقامت بإبلاغ الشرطة، بربك يا سيدي القاضي هل هذا تصرف أخلاقي مع والد أبنائها وزوجها الذي قاسمها رغيف خبزه عندما كانت لا تملك….
- اخرس.
قال القاضي وقد فقد صبره ثم صرخ بأعلى صوته :
- اخرس.
ثم أشار للشرطي :
- اطرد هذا الحيوان خارج القاعة.
أمسك الشرطي بذراع بانتيلي الذي سحبه برفق قائلا:
- لا داعي لطردي يا سيدي ، سأخرج بشكل طوعي.
وقبل أن يتجاوز بانتيلي الباب صاح به القاضي:
- اسمع يا بانتيلي.
استدار بانتيلي نحو القاضي فتابع هذا:
- لن أقفل هذه القضية قبل أن أزجك مع المتهم بأقصى عقوبة أستطيع إليها سبيلا، وإلا سأقدم استقالتي من سلك القضاء.
- خسارة يا سيدي، ستفقد العدالة عمودا من أعمدتها.
قال بانتيلي ثم خرج وأغلق باب القاعة خلفه بينما ضرب القاضي بمطرقته الخشبية على الطاولة وقال:
- رفعت الجلسة.
وغادر القاعة من الباب الداخلي متعبا وملامح وجهه مضمخة بالغضب.